Beirut weather 24.1 ° C
تاريخ النشر November 25, 2025
A A A
الصراع على الدولة وليس على السلاح
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

 

قد يرغب البعض بأخذ النقاش بعد العدوان الإسرائيلي الإجرامي على ضاحية بيروت الجنوبية نحو الشقّ الأمني حول نجاح الاحتلال مجدداً باختراق الترتيبات الأمنية للمقاومة، والوصول إلى أركان الصف الأول مجدداً، ليقول للمقاومة إن تعافيها بمعنى أخذ العبر والدروس من الحرب التي دارت رحاها قبل إعلان وقف إطلاق النار قبل سنة، وتحويلها إلى خطط عمل بكفاءة تتيح إحباط قدرة الاحتلال على الاختراق التقنيّ والبشريّ واستهداف القادة من الصف الأول، لم تنجح بعد، ورغم وجاهة الاستنتاج ومضمون الرسالة التي حملها الاغتيال، سواء عملياً أو إعلامياً، إلا أن الدخول في هذا النقاش متعذّر عملياً بسبب الخصوصيّة الأمنيّة حيث تحلّ التكهنات والفبركات والتخيلات والسيناريوهات البوليسية والحرب الإعلامية مكان التحليل العلمي، وهو أيضاً نقاش غير مفيد بل ربما يكون ضاراً لكونه يساهم في الترويج للرسالة التي يريدها الاحتلال من جهة، ويقدّم مشاركة تطوعية في خدمتها وربما بتزويدها ببعض ما تحتاجه من جهة أخرى، ولو بحسن نية أصحاب النقاش من حيث لا يدرون في أحسن الأحوال.

 

– سياسياً، تندرج عمليّة الاستهداف في سياق تصعيديّ يريد الاحتلال من خلاله أخذ النقاش الدائر حول الوضع في لبنان داخلياً وخارجياً إلى مكان يخدم تصورات الاحتلال وأهدافه، حيث إن القضيّة هي أولاً وأخيراً موقع لبنان الدولة والمجتمع من الترتيبات الإسرائيلية الموافق عليها أميركياً لرسم خرائط دول الجوار لفلسطين، وفق معادلة إسقاط الحدود الدولية لصالح الحدود الآمنة، والأمن الإسرائيلي هو ما يحدّدها، باعتبار ما هو أبعد من جوار فلسطين يبقى عهدة أميركيّة خالصة، خصوصاً بعد الغارة الإسرائيلية على الدوحة ووقف إطلاق النار في غزة. وهذه المعركة في جوار فلسطين، ومنه لبنان، لا يغيّر من جوهرها أن يبدو ظاهر عنوانها سلاح المقاومة ومصيره، والسعي الأميركي الإسرائيلي لتقديم تفسير مشوّه مزور ومتعمد لاتفاق وقف إطلاق النار، يقول بأن على لبنان تنفيذ كل شيء وكل كلمة وردت في الاتفاق والقرار 1701 ولو كمستند تاريخيّ مثل القرار 1559، وليس على “إسرائيل” بالمقابل تنفيذ أي شيء حتى ما ورد بنص صريح باعتباره التزاماً واجب التنفيذ، وصولاً للقول إنه بعد أن يقوم لبنان بكل ما تعتقد واشنطن وتل أبيب أنّها واجبات لبنانيّة، تنظر “إسرائيل” برعاية أميركية على ما يمكن فعله، من خلال مفاوضات سياسيّة تسعى إلى التوصل إلى اتفاق سلام وتطبيع العلاقات.

 

– يسقط لبنان بالضربة القاضية أمام الأطماع الإسرائيلية التي لا حدود لها عندما تستجيب الدولة اللبنانية للضغوط الأميركية الإسرائيلية التي تلقى تشجيعاً عربياً، ويقبل أن نزع سلاح المقاومة يتقدّم كأولويّة على وقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب الإسرائيلي، أو أنه أولوية منفصلة يجب أن تتقدّم بمعزل عن تقدّم مسار وقف الاعتداءات والانسحاب، بعكس الربط العضويّ بين المسارين الذي أقامه القرار 1701 وكرّسه اتفاق وقف إطلاق النار، لأن هذا السقوط بداية مسار طويل ينتهي بالتسليم بالتخلي عن الأرض والمياه والأمن والأجواء ليس إلا، وهو المسار السوري بعينه، الذي ينظر لواشنطن وسيطاً مع “إسرائيل” دون أن يطلب تراجع واشنطن عن مباركة ضم الجولان لـ”إسرائيل”، بما يعني القبول بأن التفاوض الراهن مع “إسرائيل” لا يتضمّن التفاوض حول الجولان، وأن التفاوض السياسي على أعلى المستويات سقفه اتفاق فك الاشتباك، والتفاوض لتقديم تنازلات لا يمكن أن يبلغ السقف، وهذا يعني لبنانياً الاستعداد لتنازلات موازية عن أراضٍ لبنانيّة محتلة ومياه لبنانيّة والقبول بترتيبات أمنية تمنح “إسرائيل” ما كان في اتفاق 17 أيار وأكثر، من الدخول والخروج إلى الأراضي اللبنانيّة حتى مجرى نهر الأولي، ونقطة إنذار مبكر في جبل الباروك، وتقسيم جنوب الأولي إلى ثلاث مناطق، منطقة خالية من السكان بعمق 5 كلم، ومنطقة خالية من الجيش اللبناني حتى الليطاني، ومنطقة لوجود مراقب ومحدود للجيش اللبناني حتى نهر الأولي، والتصعيد تحت عنوان التهديد بالحرب صار واضحاً، والعنوان هو أن على الدولة اللبنانية أن تقوم هي بنزع السلاح حتى ولو كانت الكلفة حرباً أهليّة، لأن كلفة الحرب الإسرائيلية سوف تكون أعظم كما تقول التهديدات وترجم ذلك الاعتداءات عملياً، وقد قال المبعوث الأميركي علناً أن مفهوم الحدود الدولية قد سقط في المنطقة لصالح مفهوم الحدود الآمنة، وهذا معناه أن الحدود يرسمها مفهوم “إسرئيل” لأمنها بدعم أميركي واضح.

 

– منذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل سنة بدأ الصراع على موقع الدولة، بين المقاومة والاحتلال، وكان رهان المشروع الأميركي بدعم عربي على إيجاد آلية لبنانية تنتهي بصدام الدولة والمقاومة، بعدما اكتشف الاحتلال أن كل إنجازاته العسكرية والأمنية والنارية لم تنجح بتوفير الشروط لتحقيق هدفين محوريين للحرب، الاجتياح البري حتى الأولي أو حتى الليطاني على الأقل، وتفكيك البيئة الحاضنة للمقاومة من حولها على خلفية الكلفة المرتفعة التي تترتب على احتضان المقاومة، وصار الرهان على الدولة لتحقيق الأمرين معاً، والدولة التي لم تمانع بالأهداف مبدئياً، صاغت مشروعها على قاعدة أن السلاح الشرعيّ وحده يحمي والانتماء للدولة وحده يستحق الانتماء، لكن الدولة بنت رؤيتها لبلوغ الأهداف على مساعدة أميركيّة بالتزام “إسرائيل” بتنفيذ التزاماتها، للسير بملف سلاح المقاومة خطوة وراء خطوة، من جهة، وضمان تمويل عربي ودولي لإعادة الإعمار، بما يؤكد صواب الرهان في الحماية والانتماء على الدولة، بينما كانت المقاومة واثقة من أن الذي تغيّر في المنطقة قبل أي شيء آخر هو النظرة الأميركية الإسرائيلية لجغرافيا الأمن، وأن أميركا لن تضغط على “إسرائيل”، وأن “إسرائيل” لن توقف العدوان ولن تنسحب، وأن وحدة اللبنانيين وحماية عناصر قوتهم وتوحيدها في الدولة والمقاومة هي السبيل لحماية السيادة، وجاء المشهد السوريّ وفشل الرهان على دعم أميركي أوروبي عربي لتحصين سورية بوجه الاعتداءات والاحتلالات الإسرائيلية رغم عدم وجود مقاومة وسلاح مقاومة ورغم الانخراط بالتفاوض على أعلى المستويات السياسيّة، ليثبت صحة رؤية المقاومة، بينما جاء الخذلان الأميركي والغربي والعربي للدولة سواء بعدم اعتبار أن “إسرائيل” هي المسؤولة عن تعطيل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، ثم الامتناع عن تمويل إعادة الإعمار وربط أي تمويل بإنجاز نزع سلاح المقاومة، ليسقط خطاب الدولة، ويضعها أمام اختبار جلسة 5 آب وتبني ورقة توماس باراك، والدعوة لحصر السلاح بمعزل عن وقف الاعتداءات وتحقيق الانسحاب، ولم يتجاوب الاحتلال، ثم جاءت مبادرات التفاوض اللبنانيّة، ولم يتجاوب الاحتلال، لأن الأمر الذي صاغه الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي بسؤال هو جواب عملياً، “هل هناك انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة”، والجواب الواضح هو أن لا انسحاب ولا نيّة للانسحاب ولا ضغوط لفرض الانسحاب، وشيئاً فشيئاً بفعل ذلك صارت الدولة والمقاومة في خنادق متقاربة بدلاً من الخنادق المتقابلة وصار الأميركي والإسرائيلي وبعض العرب واللبنانيين في خنادق متقاربة مقابلة للخنادق اللبنانية للدولة والمقاومة.

 

– التصعيد الإسرائيلي الأخير هو محاولة لإعادة خلط الأوراق تحت ضغط التهديد بالحرب أملاً بدفع الدولة لخوض حرب بالوكالة عن الإسرائيلي، لجعل الاحتلال مؤبداً، وحتى الآن تربح المقاومة وتخسر “إسرائيل”، وهذه هي المعركة الحقيقية، وعلى وجهة هذه المعركة ترسم المقاومة إيقاعها، “أين تكون الدولة في هذا الصراع؟”.