Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر December 13, 2016
A A A
انتحاري في القاهرة
الكاتب: وائل عبد الفتاح - السفير

ـ ١ ـ
على من ينتصر الحكام؟
أعلن الرئيس السيسي أن «الانتحاري» الذي فجر 25 مسيحيا في القاهرة أمس الأول، فعل ذلك من الإحباط.
الرئيس هو من أعلن بنفسه اسم الانتحاري في الجنازة، بعد أقل من يوم على الجريمة، الكبرى في تاريخ العنف على الهوية الطائفية. الإعلان غير مسبوق، لأن الجنازة الرئاسية كانت عسكرية، ألغيت بسببها الجنازة الشعبية، وهذه علامة تحديد لطبيعة الصراع بين السلطة والإرهاب، المجتمع بينهما متفرج أو ضحية، ولهذا صمم مسرح الاكتمال هذه الصورة في جنازة شهداء التفجير، يقف فيه الرئيس معلنا بنفسه رواية الاجهزة الامنية، وكأنه قائد فريق ينتصر يطيب خاطر ضحايا إحدى معاركه.
وهذه واحدة من أساسيات مفهوم الإرهاب على أنه تعبير عن قوة «النظام» أو مبرر وجوده أصلا، وهنا يكون السعي الى اختزال المعركة في السلاح، الذي رغم أهميته لا يمكنه حسم معركة بهذا التعقيد، لكن الاختزال ليس مجرد تقصير، أو أداء عابر، في هذا النوع من المعارك، لكنه رؤية «المحافظين» على بناء الدولة كما تركها جيل «التحرر الأول» وهي تلك التي ترتبط بالحاكم، او بالحفاظ عليه، حتى لو انتهت الدولة نفسها. هو السر والمصير.
ـ 2 ـ
الطابع الحربي لمعركة الإرهاب يفرض نفسه.
وحذف المجتمع منه هو رغبة متبادلة من السلطة والإرهابيين، لأنه في جزء منه، تأكيد أو تنافس على السلطوية الحائرة، يتجلى أحيانا في الجانب الأمني حيث تسعى العصابة إلى خلخلة سيطرة الأجهزة التي تقوم الدولة على احتكارها للعنف.
كسر الاحتكار يتجلى أيضا في السيطرة على الناس عبر خطابات الإعلام والتعليم، وهو ما تنازع الدولة من أجل سيطرتها على الدماغ عبر أجهزتها الايدلوجية، التي لا تعبر في تلك الدول إلا عن خليط لا يقوم على حرية الأفكار، ولكن على تجاور انتهازي للمتناقضات كما تعبر دساتير هذه الدول او خطاباتها التي تتجاور فيها الشمولية والديموقراطية العلمانية والإسلامية او الاشتراكية والرأسمالية بل إن الدولة في مصر وصلت الى شمولية ذات بعد نيوليبرالي.
عصابات آكلي الدول تتناسل لتسيطر من أسفل، عبر تسييد خطابات تشكك في الدول اللاهية أصلا، والإرهابي مجذوب بفكرة «بناء مملكة الله على الاض» ـ يصدقها بقوة تساوي قوة نبي أو مقاتل قديم…
تلك الفكرة التي يبيعها السفاحون والتجار ومصاصو الدماء لمن يبحثون عن دور كبير لحياتهم.. يبيعونها منذ زمن طويل مرة بالحشيش (فرق الحشاشين) ومرات برضا المسيح (الحروب الصليبية) ومرات بنصرة الإسلام الغريب (من الإخوان الى الجهاد مرورا بالتكفير والهجرة) وأخيرا بالمظلومية الكبرى الآن.. والسلطة لا تحارب الارهاب لأنه يقوم على كذبة وجريمة بل لأنه منافس على السلطة ـ بديل محتمل لها ـ ولهذا فإنها ترضى بالإرهاب في لحظات صمته بل ترعاه وتكفل له الحياة… لكنها تقتله عندما يطالب بالسلطة أو يحارب من أجلها…
الإرهابيون يعيشون في كنف السلطة (من خيرت الشاطر الى ياسر برهامي)… حتى يخرجون عن «الصفقة»… فتبدأ الحرب والمظلومية ويولد إرهابيون جدد…. ها هم الآن يتجولون حولنا ويتركون رسائلهم المتفجرة… كما أن تنظيماتهم النائمة أكثر خطرا لأنها ليست مثل داعش أعلنت خططها كاملة ولكنها تتحالف مع النظام لتأكيد «تدينه» ؛ أو «إسلامه» بينما تربي كوادرها على أنهم في لحظة «التقية» ولا بد من إضعاف كل حلقات التجانس بشأن فكرة «مواطنة» أو «الدولة لساكنيها»، ولكن لا بد من التذكير أو التحريض على بناء هوية الفرد الساكن في هذه البلاد على أنه ابن طائفته (مسلمين أو أقباطا) بل ومذهبه (سنة وشيعة) وأن الصراع في دولته ليس دفاعا عن عدالة ومساواة بل عن نصيب الطائفة أو سيادة المذهب.
ـ 3 ـ
أجهزة الدولة نفسها أصبحت مخترقة من «مجاذيب الخلافة» ليس بالمعنى التنظيمي ولكن بالمعنى الذي يجمع فيها موظف الدولة بين شغفه بمكانه في سلطة تسيطر من أعلى… وبين خطاب يشغل فراغاته العقلية والروحية بأننا نعيش في الخطيئة… هؤلاء ينضمون عن بعد بمنتظري عودة الخليفة ـ وأمير المؤمنين، تلك الأشكال السياسية التي ارتبطت بفترتها وعودتها أو تصور إعادتها بعد فوات زمانها هي تصورات عقل يصلح لأفلام هزلية…
الإرهابي المتجول الذي يعيش في ظل مجموعات صغيرة عواطفها مشحونة بعدة مستويات من الغضب على الدولة ولمجتمع، بداية من الشعور بالذنب أننا نعيش هذا الزمن، وحتى العنف الدموي الذي أصبح طابع مواجهات الشرطة مع الإخوان والإسلاميين باعتبار أن هؤلاء بالنسبة للإرهابي الجديد هم رسل «الإسلام» المعذبون بسبب إسلامهم…
هؤلاء المتجولون لا يخضعون لبنية التنظيمات التي يدافعون عنها، بل إنهم نتاج القهر الطويل والشعور بالاضهاد وأن هذا البلد ليس لهم… يعيشون في أماكن لا تستطيع أجهزة العنف الرسمية (شرطة أو جيشا) الوصول لها، تلك الأماكن التي نمت وترعرعت بسبب فشل الانظمة لا لأنهم يولدون أشرارا ومجرمين كما ترسم صورهم في أذهان أبناء الطبقات المستريحة التي تشعر بالخطر على أوهامها…
تتوهم تلك الطبقات أنها يمكن أن تستمتع بالبلد منفردة، وتنظر بالتعالي البغيض إلى بشر يعيشون بالقرب منها… لكنهم ولدوا بعيدا من رحمة الدولة أو منافيها الاجتماعية… وهذه هي الأرضية التي ينتشر فيها دين الارهاب.
هذه هي المتاهة التي يخرج منها الارهابي المتجول الذي يعيش بيننا ويخرج من بيته ليضع قنبلة يفجر بها عسكريا يقف في كشك الوردية أو يضعها تحت سيارة ضابط لتنهي حياته…
الارهابي المتجول ينتقم… ويشعر بأنه سيذهب إلى الجنة بانتقامه…
وهو نوع جديد لا تلتقطه أجهزة المعلومات الغارقة في نفايات العهود الماضية وصناعة الفضائح وتسريب المكالمات لقتل المعارضة إعلاميا…
المتجول… غالبا نوع جديد على تنظيم الجماعة… اجتذبته المظلومية الجديدة بعد رابعة العدوية وقرر الانتقام وكسر هيبة الدولة التي مارست جبروتها…
الارهابي المتجول خطر أكبر من قنابله البدائية…
خطر لأنه بدائي يسير خلف أفكار بدائية تغذيها الأحداث والمرجعيات التي تغطي الظلم بعلامات التدين والمظلوميات النقيضة…
من هنا يولد انتحاري كل يوم في القاهرة.