Beirut weather 15.41 ° C
تاريخ النشر December 17, 2024
A A A
سليمان فرنجيه: كلمة حق في زمن الإعصار
الكاتب: المحامي زياد رامز خازن - موقع المرده

في المشهد السياسي اللبناني، هناك أسماء لا تنحني أمام عواصف الزمن، بل تبقى كالأرز، شاهدة على ثبات الجذور ورسوخ المبادئ. سليمان فرنجيه هو أحد هذه الأسماء التي أصبحت جزءً لا يتجزأ من ذاكرة لبنان. بين الجد سليمان، الذي صاغ شعاره الخالد “وطني دائمًا على حق” والحفيد سليمان الذي حمل إرثه بثبات وإيمان، تشكّلت مدرسة سياسية مبنية على الصدق والشرف والوفاء للوطن وللناس.

سليمان طوني فرنجيه هو صورة نابضة عن اللبناني الأصيل الذي عاش على قدسية الوطن واعتبرها خطاً أحمر لا يقبل المساومة. ماروني الجذور، لبناني الهوية، وعربي الإنتماء، ظل وفيّاً لهذه الثوابت التي لم تهتز تحت أي ظرف، ولم يعرف طريقاً للمساومة على مبادئه.

نشأ على إرثٍ من الشهامة والوطنية التي ورثها عن جدّه، وتعلمها مبكرًا وهو الذي عَرِفَ يُتم الأب والعائلة منذ نعومة أظافره. ومع ذلك، حمل المسؤولية بحكمة وصبر، يصادق بشرف ويخاصم بشرف، لا يعرف المراوغة ولا التنكر للمبادئ.

من إهدن، موئل المسيحية ومهد الموارنة، خرج سليمان فرنجيه حاملاً إرث المسيحية المشرقية العربية القائمة على الحرية والتشبث بالأرض والعيش الواحد، فكان زعيماً حقيقياً لم تقتصر شعبيته على طائفة دون أخرى. مسلمون ومسيحيون على حدٍ سواء شهدوا على صدقه، لأنه لم يكن سياسيًا يمتهن الشعارات، بل زعيماً قريبًا من الناس، يسمع آلامهم، يشاركهم أحلامهم، ويبذل كل جهده لمساعدتهم.

سليمان فرنجيه لم يكن مسيحيًا بالهوية فقط، بل هو مسيحي حقيقي يحمل في قلبه صفات التسامح والمحبة والإنسانية، وفي عقله الوطنية والشهامة والوفاء. ولأنّه كذلك، ظل سليمان فرنجيه هو هو، صامدًا وثابتاً في موقفه وزعامته وشعبيته في كل المراحل. ورغم كل الظروف، بقيت بنشعي محجاً للمحبين والأصدقاء، وأيضاً للخصوم السياسيين الذين، رغم خلافاتهم معه، يُكَبِّرون فيه أخلاقه وصدقه وفروسيته عندما يتحدثون عنه في الجانب الشخصي.

وفي عالم السياسة المُتَغَير، لم يتعلم سليمان فرنجيه الإنحناء أو إرتداء الأقنعة. لم تهتز يداه لإتقان التصفيق، لأنه آمن بأن الأيدي المرتجفة لا تصنع الأوطان، وأن القادة الحقيقيين لا يغيرون مواقفهم إرضاءً لرياح المصالح.

حين نتحدث عن سليمان فرنجيه، نستعيد إرثاً عميقاً، متجذرًا في صلابة الجبل، وفي ثبات الرجال الذين لم يهادنوا يوماً على مارونيتهم أو وطنهم أو عروبتهم. سليمان الجد، الذي وقف سنة ١٩٧٤ في الأمم المتحدة مدافعاً عن فلسطين، لم يكن مجرد رئيسا ً للجمهورية، بل أيقونة للكرامة اللبنانية، رجلًا واجه الإملاءات الدولية بشموخ الأرز، وأثبت أن الكبرياء الوطني لا يُباع ولا يُشترى.

وعلى خطى الجد، مضى طوني فرنجيه الأب، لا كسياسي يبحث عن مكاسب عابرة، بل كرمز للتضحية. إستُشهد في مجزرة إهدن مع عائلته، مُتَصَدِّياً للمشروع الإسرائيلي في لبنان، تاركاً خلفه إرثاً مكتوباً بدماء الوفاء والشهامة. في تلك اللحظة التي ظنّ فيها أعداؤه أنهم باغتيال العائلة قد أغتالوا الإرادة، وقف الرئيس سليمان فرنجيه، الجريح في قلبه والثابت في موقفه، ليقول “نحن عصيون على الإلغاء” لأن الإلغاء لا يُقصي إلا الضعفاء، وإن الكبار لا ينكسرون أمام الألم، بل يحولونه إلى قوة.

وفي زمن يعج بالتقلبات والإختبارات الصعبة، يبرز سليمان فرنجيه الحفيد كإمتداد طبيعي لإرث الجد والأب، حاملاً عبء التاريخ وتحديات الحاضر على كتفيه. لم تُثنه الرياح العاتية عن التمسك بثوابته، ولم تغيّره المساومات التي إستدرجت كثيرين غيره. بقي وفياً لخطه الوطني الذي يتوارثه الكبار عن الكبار، فكان شاهداً على زمن الرجال في حقبة نادرة فيها الأصالة، وصامداً حين باتت العروبة ثمناً يدفعه المتمسكون بقناعاتهم، بينما ينجو منها أولئك الذين ساوموا عليها.

ومع ذلك، لا تُخفى محاولات إستهداف سليمان فرنجيه، وهو الذي يُتَهَم بأنه يَفتقر إلى الغطاء المسيحي، في حين يطرح مُتَهِموه إمكانية إنتخاب رئيساً للجمهورية دون مشاركة المكون الشيعي، الذي يشكل جزءاً أساسياً من نسيج الوطن. هذا التناقض يكشف عن أزمة في مفهوم الشرعية الوطنية، التي أصبحت في خدمة مشاريع الإقصاء، بدلاً من أن تكون ضمانةً للوحدة.

الرئيس سليمان فرنجيه الجد كان من أوائل المدافعين عن عروبة لبنان. ففي مؤتمر لوزان عام 1983، كَرَّسَ عروبة لبنان هويةً و إنتماءً، متجاوزاً كل الجدليات التي كانت تُرَوَّج لصورة “لبنان الفينيقي” أو “لبنان ذو الوجه العربي”. ويا للمفارقة اليوم، إذ بمن كانوا بالأمس حلفاء “العبري” يتسابقون في مزايدات العروبة على سليمان فرنجيه الحفيد، ذاك “العربي” أباً عن جد، الذي لم تنحرف بوصلته يوماً عن إيمانه العميق بعروبة لبنان وانتمائه الأصيل.

في لبنان اليوم، يتوهم البعض أن سقوط حلفاء سليمان فرنجيه يشكل هزيمة له، متجاهلين أنهم أنفسهم كانوا يوماً حلفاءً لإسرائيل التي انهزمت على هذه الأرض، ومع ذلك، لم يُهزَموا، بل أعادوا رسم أدوارهم وتحولوا بقدرة قادر إلى “سياديين” وحراسٍ للكرامة الوطنية، وكأن الهزيمة كانت جواز عبورٍ نحو خطاب جديد يُعيدهم إلى الواجهة بوجوهٍ مختلفة وشعاراتٍ برّاقة.

هذا التناقض لا يقتصر على كشف إزدواجية المواقف فحسب، بل يكشف أيضاً عن أزمة عميقة في مفهوم الوفاق الوطني، الذي كان يوماً ما أساساً للوحدة، فإذا به يتحول اليوم إلى أداة للتفرقة و التفكك.

لبنان، الذي لطالما عاش على إيقاع التوازنات الدقيقة، يدرك أكثر من غيره أن المكابرة لا تبني دولة، وأن التشفي لا يصنع وطناً. تجاوز هذه اللحظة الحرجة يستدعي رؤية سياسية شجاعة قادرة على المصارحة و المصالحة لهدم جدران الخلافات وتفكيك أوهام الماضي، والإنطلاق بمشروع وطني جامع يضع مصلحة البلاد فوق كل الحسابات.

وسط هذا المشهد المتشابك، يخرج سليمان فرنجيه من ضباب الحملات، عزيزاً بوفاء ناسه، مرفوع الرأس بقوة مؤيديه، حاملاً إرث الجدّ وأمانة الأب، متمسكاً بثوابته في وجه تحديات الحاضر. ولو بقي وحيداً، فهو قوي بمحبيه الذين لن يتخلوا عنه، و يإخلاصهم الذي لا تهزه الرياح.
وفي زمنٍ أصبحت فيه العروبة عقوبة يدفع ثمنها الثابتون في قناعاتهم، يظل سليمان فرنجيه شاهداً على أن المبادئ الراسخة لا تهزمها الأعاصير، وأن كبرياءه المستمد من جذور الأرض يبقى شامخاً كإهدن، العصية على العواصف، يواجه الزمن بثقة، حاملاً الحق سلاحاً و الإرث درعاً.