Beirut weather 24.41 ° C
تاريخ النشر June 10, 2024
A A A
هذا ما قاله الخورأسقف فرنجيه في عظة قداس ذكرى مجزرة إهدن

كلمة المونسنيور إسطفان فرنجيّه في قدّاس ذِكرى شهداء 13 حزيران إهدن
(9 حزيران 2024)
“لأنّه مَنْ عرف فكر الرّبّ ليُعلّمه؟ أمّا نحن، فلنا فكر المسيح؟” (1كو2: 16)
عندما التقى بولس الرّسول بالسّيّد المسيح على طريق الشّام، عَدَّ كلَّ شيء كالزّبل، ليربحَ المسيح. فانتقل من فِكْر العالم المادّيّ إلى فِكْر الله، وقال: “نحن لم نأخذْ روحَ العالم، بل الرّوح الّذي من الله”. بحيث استيقظ فيه ما كان نائمًا، أي: روح الله وفكره وعقله وصورته، أي: إنّه عاد كما خرج من يد خالقه الّذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، عاد إنسانًا.
والاستيقاظ الّذي يطلبه الله ليس استيقاظًا من النّوم، بل من الموت، موت فكرُ الله فينا، أي: لنرجعَ ونستبدلَ عقلَ العالم الّذي فينا، والّذي قادنا إلى الهلاك بعقل اللهِ وفكره؛ لِذلِكَ يَقُولُ بولس في رسالته إلى أهل أفسس: «اِسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ، وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ». (أف 5: 14).
فمن هو النّائم أيّها الإخوة والأخوات؟
النّائم هو مَنْ يسير في فِكْر ومنطق العالم، ويتجاهل فِكْر الله، أي: تعاليم يسوع؛
النّائم هو مَنْ يقتل أخاه الإنسان جسديًّا أو معنويًّا، فرديًّا أو جماعيًّا، من أجل إشباع شهوة السّلطة؛
النّائم هو السّاكت عن الظّلم، والقابل به، لا بل في كثير من الأوقات، المدافع عنه؛
النّائم هو أيضًا الجاهل الّذي لا يريد أن يعرفَ من هذه الدّنيا إلّا مصلحَته الضّيّقة، أي: رفاهيته، ولا قضيّة له، ويُخوِّن الآخر ويدينه دون رادع، ويعمّم أحكامه على الأفراد والجماعات أيضًا؛
النّائم هو الّذي يعيش باللّامبالاة أمام وجع الآخرين، وينتقد الّذين يضّحون بأغلى ما عندهم عن قَصْد أو عن جَهْل؛
النّائم هو الّذي لا يريد أن يميّزَ الأفكار الّتي يتلقّاها في كلّ لحظة. وأن يتساءلَ أمام كلّ فكرة يتلقّاها، وقبل أن ينطقَ بأيّ موقف: هل تتوافق هذه الأفكار مع أفكار الله، أم لا؟ إذ إنّه بحسب الفيلسوف الألمانيّ هيغل: “الفكرة تقود العالم”، فإمّا تبني المحبّة، وتمدّ الجسور، أو تزرع الحقد، وتهدم الجسور؛
النّائم هو مَنْ يسير بمنطق القويّ دون السّؤال عن الحقّ والحقيقة؛
النّائم هو الّذي يضرب القِيَمَ الإنسانيّة والأخلاقيّة، مقلِّدًا مَنْ يدَّعون سيادة العالم إرضاءً لهم، ولو طغَوا، أو قتلوا، أو تعدَّوا.
في هذه السّنة، نحتفل بالذِّكرى السّادسة والأربعين لمجزرة إهدن، نحتفل بها بشكل استثنائيّ عن كلّ السّنوات؛ بسبب الأحداث الّتي يعيشها كلّ مِنْ لبنان وفلسطين الجريحة، وبسبب وضوح الحقيقة للّذين يريدون رؤيتَها. نرى القِيَمَ الإنسانيّة الّتي كانت تتغنّى بها دول كبرى تنتهكها هي اليوم، أو تقف متفرِّجة! وفي بعض الأحيان داعمة سرًّا وعَلَنًا للّذين ينتهكونها، وينتهكون كلّ المؤسّسات والمحاكم الدّوليّة. لقد سقطت أقنعة كثيرة بفعل دماء الأطفال الأبرياء الّذين يصرخون، وسيصرخون أمام الله على الدّوام.
اِحتفالنا اليوم استثنائيّ؛ لأنّنا نرى في هذه الأيّام عَيْنا طفلتنا الحبيبة جيهان تعانق عيون أطفال بيت لحم، وأطفال دير ياسين، وأطفال غزّة، وأطفال قانا وجنوب لبنان، لأنّ القاتل واحد، وهو الفكر الشّيطانيّ الّذي لا يرحم أحدًا، حتّى عيون الأطفال. وكلّنا نعلم أنّ هذا الفكر لا يمثِّل دينًا، أو وطنًا، أو جماعة بشريّة، إنّما يمثِّل ما سمّاه الرّبّ يسوع إبليس الّذي وصفه بالقتّال والكذّاب حين قال: “ذاكَ كَان قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ، فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ؛ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ”. (يو 8: 44)
اِحتفالنا استثنائيّ هذه السّنة؛ لأنّ قلوبَ شهيداتنا: فيرا، وتيريز، وفدوى، يعانِقْنَ قلوب شهيدات جنوب لبنان، وفلسطين، اللّواتي استُشهدْنَ في سبيل ولادة حرّيّة حقيقيّة لهذا العالم.
اِحتفالنا استثنائيّ هذه السّنة؛ لأنّ شهداء الثّالث عشر من حزيران 1978، الّذين سقطوا  في إهدن، وعلى رأسهم القائد الشّهيد طوني فرنجيّة وعائلته ورفاقه، يعانقون اليوم شهداء الوطن الّذين يسقطون في الجنوب اللّبنانيّ الصّامد والمقاوم، وفي فلسطين. ونقول لهم: إنّ ما يحدث في عالمنا اليوم زاد في عيوننا قيمة شهادتكم، ونبل القضية التي استشهدتم من أجلها ولم تعودوا شهداء الوطن والعيش الواحد وحسب، بل أنتم حلقة من قوافل شهداء الإنسانيّة المجروحة، وزادنا تمسكا وإيمانا بلبنان- الرسالة، القوي بسواعد وتضامن بنيه ونخبركم أيضًا أنّ المنظّمات والمحاكم الدّوليّة استُشهدوا أيضًا مثلكم لا بل كُشفوا، وأنّ حقوق الإنسان ظهرت أنّها كذبة كبيرة لا بل لعبة بأيدي من يدّعون صونها والدفاع عنها.
أيّها الشّهداء الأبرار، إنّ شهادتكم غالية على قلوبنا، وهي سَنَدٌ لنا وقوّة في وجه عالم مظلم، يأتينا بلباس الحضارة والإنسانيّة، ليضربَ الأخوّةَ الإنسانيّة، والقِيَمَ العائليّة والأخلاقيّة، ويطوِّرَ السّلاح، ليسيطرَ بالنّار والدّمار على البشريّة، بينما يزداد العالم فقرًا وتعاسة. يقول قداسة البابا فرنسيس: “إذا أردنا أن نحبّ الله حقًّا، علينا أن نكون شغوفين بالإنسان، بكلّ إنسان، ولا سيّما الّذين يختبرون الحالة الّتي ظهر فيها قلب يسوع: الألم، والهجر، والتّهميش”.
كلّنا رجاء أنّ العالم بيد الله، مهما تظاهر هذا العالم بالانتصار، فمِنْ رحم الإبادة الجماعيّة في غزّة، من رحم بطون الأطفال المتضوّرة جوعًا للخبز والسّلام والفرح؛ من دموع الأمّهات الثّكالى والآباء المفجوعين بقسوة الحياة؛ من حناجر طلّاب الجامعات والمدارس وأصحاب الضّمائر الحيّة وتضحياتهم في العالم كلّه، ستنتصر الإنسانيّة، وتنقلب المقاييس، وينبلج فجر جديد لإنسانيّتنا المجروحة.
أمّا نجل الشّهيد، معالي الوزير سليمان فرنجيّة، رئيس تيّار المردة، فأقول له: أنتَ نَجَوْتَ من المجزرة بفضل العناية الإلهيّة، لتكمِّلَ المسيرة، وأنت تسير بحكمة وصَبْر، وتمارس السّياسة بِنُبْلٍ وواقعيّةٍ ومسؤوليّة، بعيدًا عن الغوغائيّة والشّعبويّة القادرة على اللّعب على العواطف، وشدّ العَصَبِ الطّائفيّ والمذهبيّ، وتغيّر معادلات أحيانًا، ولكنّها لا تعطي حلولًا آمنة ودائمة وعادلة، ولا تبني وطنًا، بل هي كالزّهور الّتي تنبت بسرعة، وتذبل بسرعة أيضًا.
نصلّي معكم اليوم أيضًا على نيّة السّلام الحقيقيّ في لبنان والعالم، وعلى نيّتكم يا صاحب المعالي؛ لتبقى صانعَ سلامٍ ومصالحة، ومقدامًا في خدمة الوطن والتّعالي عن الصّغائر، ولا تردّ الشّرَّ الّذي يطالك إلّا بالخير، فتاريخُك مكتوبٌ على جبهتِك ولا تحتاجُ شهادةً من أحد بلبنانيتك ولا بمسيحيتك ، بل استمر بانفتاحك وتمسكك بالمبادئ التي تربيت عليها من جدك المغفور له الرئيس سليمان فرنجية ومن والدك الشهيد رحمةً باللبنانيين ، فالكلّ إخوة لنا في الوطن والإنسانيّة، إنّما مشكلتنا مع مَنْ شوّههم روحُ العالم، ونرجو لهم استيقاظ روح الله فيهم؛ لأنّه لا يفيد المصلحةَ الوطنيّة إلّا الاستيعاب والصّبر والمحبّة، والله هو موزِّع النّعم وواهبها.
باركك الله، وبارك نجلَكَ النّائب طوني فرنجيّة، الّذي يسير على خطاك بثبات واحترام، والرّحمة والخلود لشهدائنا الأبرار، ولكلّ شهداء الإنسانيّة، ولنا جميعًا أن نختارَ فِكْرَ الله، ونرتاحَ في دفء قلبه، وفي فَيْءِ كلمته نسير، له المجد إلى الأبد. آمين