Beirut weather 21.32 ° C
تاريخ النشر November 14, 2016
A A A
الميثاقية ضد الدولة
الكاتب: نصري الصايغ - السفير

الدولة تبدأ من فوق. اكتمال نصاب المؤسسات هو الأساس. الدولة تصنعها السلطة، أو الرئاسة ومَن معها من أعمدة الطوائف. بيدها أن تعيد صياغة النظام، تأهيل المؤسسات، الالتزام بالقوانين، تحصين القضاء، محاربة الفساد، احترام الخصوصية الطوائفية، إلى آخر ما يبرهن أن البلد المتعدِّد واحد ومثالي.
على اللبنانيين أن يرتاحوا. اكتمل النصاب الطائفي في «الميثاقية المبرمة». رست السفينة على برّ الوئام. شفيت «البيئات اللبنانية الحاضنة» من التشنج والجنون والعداوات، أو كتمت في الصدور. أعيد الحق إلى نصابه. لم يعُد من حق أحد أن يرفع صوته بالشكوى، أن يعلن مظلوميته، أن يهدِّد بالطلاق. انتظم النظام بحذافيره الطائفية والمذهبية: الرئاسة الأولى متراس المارونية، الرئاسة الثانية حصانة شيعية محكمة، الرئاسة الثالثة منصة سنية. لقد امتلأت حصون السلطة بفرسانها. النظام موعود بأيام على أحلى ما يُرام… الدولة بدأت مسيرتها من فوق، لا نعرف إلى أين ستصل.
أقوال متفائلة في مطلع العهد الجديد، بشائر الأمل يفصح عنها الصمت على ما مضى. لا يجوز نبش الماضي وتعكير المزاج السياسي الجديد. ألسنة الإشادة بما حصل في الاستحقاقين، رئاسة وتكليفاً، محبَّبة ومريحة. كل مَن كان موضع شكوى أو اتهام أو فضيحة صار في منأى عن التناول. لم يعُد الرئيس يشبه «الجنرال». بري في الركب بعد عناد، الحريري ليس صياد مال.. وهكذا دواليك. حدث ذلك بسحر ساحر. النتائج إيجابية ولو إلى حين. الدولة متعقّلة. من حق اللبنانيين باستراحة. الحروب الكلامية القذرة توقفت: الحكمة قضت بذلك.
هل صحيح أننا موعودون بدولة قوية، عادلة، تحترم القوانين، كأننا في «مدينة فاضلة». تقضي الواقعية أن تكون التوقّعات متواضعة. نظرية «الدولة تبدأ من فوق» غير صحيحة. سبق أن حدث ذات حكومة، برئاسة صائب سلام، وبوزراء من الشباب والتكنوقراط، أن أعلنت أنها بصدد «الثورة من فوق». لم تنجح. «كلمات، كلمات، كلمات». اندلعت من تحت. وسقط لبنان دولة وشعباً وجيشاً ومؤسسات. انتهى لبنان الميثاق بسكين الأحقاد والثأر… هو ماضٍ من المفترَض أن يمضي. لا يُستحسَن نبش الذاكرة. هناك رغبة في أن يسود الوئام الطائفي، ولو على زغل مذهبي. لذا: «ارتاحوا وأريحونا».
وبرغم التجارب المخيّبة، فلدى اللبنانيين رغبة صادقة في الاستفادة من هذه اللحظة. لحظة تاريخية بلغة قادة المرحلة. هناك تفضيل واضح للميثاقية الطوائفية. فهي، برغم عيوبها الأخلاقية وانتقاصها الوطني وفقدانها للديموقراطية، أفضل بكثير من «السوقية الطائفية والمذهبية» التي اعتاشت على لغتها قيادات وزعامات وخطابات، مستفحلة الأحقاد والثارات.
أولى علامات «الدولة العائدة»، أنها دولة الأقوياء. جبران باسيل واضح ومعبّر: «الأقوياء يحكمون، وهل الضعفاء مَن يحكمون؟ طالما دستورنا هو نفسُه ونظامنا طائفي، فإن هذا الشيء (حكم الأقوياء) يشكل الاستقرار… الخيار الثاني هو الذهاب إلى دولة علمانية». هذا صحيح. إنما العلمانية مستبعَدة عمداً، وبحجج تتفنن في ابتداع الأكاذيب، ومعظمها من هؤلاء «الأقوياء».
والأقوياء هؤلاء لا يأتيهم الضعف من أي وجه. يستمرّون أقوياء جداً من خلال استثمارهم الدائم والمربح للولاءات الطائفية. ليس بين الأقوياء مَن جاء من خارج الطائفة. الجنرال، المدافع عن الحصة المسيحية ببسالة وعناد نادرين، مستمرّ في ذلك، منذ ثمانية وثلاثين عاماً. لم تقوَ عليه سنوات النفي والإبعاد والتحجيم. سمير جعجع كذلك. الاثنان جاءا من خنادق الحروب الطائفية. إجازة التمثيل المسيحي لا تُمحَى.
الرئيس نبيه بري قوي جداً. رئيس يجدّد له المجلس، لأنه أحد الممثلين الشرعيين للشيعة، منذ ما بعد موسى الصدر. ولديه وكالة من قيادة «حزب الله» الشيعي بذلك. سعد الحريري، لا يقوى عليه متمرّد من صفوفه. لا يخرج عليه خصم وينجح. ممثل السنة في لبنان، وهو تمثيل مدعوم بالمذهب والمال والدم كذلك. وليد جنبلاط قويّ جداً جداً. لا حاجة لبرهان. طائفته «من الإشارة تفهم عليه». الآخرون، ملحَقون بالأقوياء. أوزانهم العائلية وإرثهم لا يؤهلهم لمكانة مستقلة.
«دولة الأقوياء»، التي بدأت من فوق، ليست بحاجة إلى الـ «تحت». شعوب لبنان مُعفاة من مساءلتهم، وأجهزة الدولة ومؤسساتها ممنوعة من حسابهم. هم مطوَّبون كذلك. دولة الأقوياء مقفلة. لا دور للناس فيها. الشعوب تستدعى لأداء الولاء، وليس للمحاسبة الديموقراطية.
من ضحايا «دولة الأقوياء»، القوانين والمؤسسات والمحاسبة والإدارة والمجالس، أي بنية الدولة بذاتها. الأقوياء جداً هم الدولة من «فوق» ومن «تحت» ومن «بين بين». بلا مبالغة، الإدارة هي حزب الأقوياء. مفاتيح الإدارة والمؤسسات في جيوب الأقوياء. لم يقوَ فؤاد شهاب عليهم، فهل يقوى الجنرال؟ لا يعوَّل على الأقوال، بل على الأفعال. لا سابقة تؤيّد بناء «الدولة من فوق» وعلى أعمدة طائفية… جلّ ما تنتجه «الميثاقية»، الاستقرار. يحتاج الاستقرار دائماً إلى حراسة الأقوياء ورعايتهم، بشرط ألا يُحرَموا من المكافأة. تدليل على ذلك، حرص الأقوياء على أن تكون الحكومة جامعة لكل «الأضداد».
من ضحايا الدولة الطائفية، الديموقراطية. الانتخابات النيابية هي تمثيلية يُصار فيها لتحسين أو تبخيس التمثيل الطائفي. الحكومات تؤلف بالتوافق، على أن تتكوَّن من الأقوياء أو مَن يمثلهم. من ضحايا الميثاقية، الإعلام الطامح أن يكون صوت الناس، فإذا به صوت المذاهب والطوائف. من ضحايا الميثاقية، وحدة المؤسسات. الجامعة اللبنانية نموذجاً. المدارس الرسمية كذلك.
إنها صورة بشعة لكيان، لا يصبح وطناً لمواطنين. إنها صورة الملجأ ـ المعتقل، المحروس، من شياطين الطوائف وأبالسة المال وأسياد الفساد.
لا أحد يسأل عن البدائل. العلمانيون غائبون عن الوعي. اليساريون ضائعون ومبدَّدون، التقدميون يتراجعون، المثقفون غائبون، وهؤلاء ليسوا أقلية، بل أكثرية سائبة. وفي مثل هذه الحالة، يكون لبنان حصة مَن استولى عليه، بشرعيَّة الميثاقية.
التواضع ينصح اللبنانيين، بأن يقبلوا بسلطة تتعادل فيها الطوائف، وألا يحلموا بدولة ووطن ومواطن. هذه من ثوابت الدولة المدنية اللاطائفية.
الميثاقية، لا خوف عليها بعد الآن. كل الخوف على الدولة.