Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر March 13, 2023
A A A
3 أعوام على قرار التعثّر في سداد “اليوروبوندز”: لبنان قرر دخول “جهنم” برجليه!
الكاتب: سلوى بعلبكي - النهار

 

عندما قررت حكومة الرئيس حسان دياب التخلف فجأة عن سداد سندات “اليوروبوندز” المستحقة في 9 آذار 2020، تداعى الكثير من الاقتصاديين والمحللين وحتى مؤسسات التصنيف الدولية للتحذير من مخاطر التخلف عن سداد الديون السيادية لِما لها من تأثير سلبي كبير على مالية المصارف، وتقويض الاقتصاد بشكل كبير، اضافة الى تأثير القرار على استدامة سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار. ومن أبرز المبررات التي ساقتها الحكومة يومذاك لتبرير تخلفها عن السداد انخفاض احتياط لبنان من الدولار بشكل جذري، وتاليا كان لا بد من وضع الأولويات في ما يتعلق باستخدام ما تبقّى من عملات اجنبية. كان على مجلس الوزراء أن يختار بين الدفع للدائنين الخارجيين أو استخدام الأموال لاستيراد الحاجات الأساسية للبنانيين كالأدوية والمواد الغذائية والوقود. رسا خيار الحكومة على خيار الدعم الذي كلف لبنان ما بين 12 مليار دولار و15 مليارا، وهو مبلغ أكثر بكثير من الاستحقاقات التي كان يتوجب على الحكومة سدادها في 2020، بما أدى الى تفاقم الازمة، خصوصا أن الدعم ذهب باتجاه آخر مغاير كليا لهدفه، فأفاد منه المهربون والتجار والمحظيون.

أمّا وقد “وقعت الفاس بالراس” ودخل لبنان في خيار “جهنم”، فإنه لم يعد أمام اللبنانيين إلا الرجاء والدعاء “اللّهم إنّا لا نسألك رد القضاء، وإنما اللطف فيه”، في انتظار الترياق من البحر حيث النفط “الموعود” لإخراج لبنان من أزمته… هذا إن وُجد!

برأي كبير الاقتصاديين في “بنك بيبلوس” نسيب غبريل فإن القرار الذي اتخذته الحكومة السابقة بالتعثّر في تسديد سندات “اليوروبوندز” هو “قرار غير تقني بل سياسي، بدليل أنه كان ثمة خيارات أخرى أمام السلطات، خصوصا أنه كان لا يزال لدى مصرف لبنان احتياط يقدّر بـ 29 مليار دولار من العملات الاجنبية في آخر شباط 2020”. واذا كان من حق كل حكومة أن تحافظ على الاحتياط بالعملات الاجنبية لدى “المركزي” من خلال اجراءات لها علاقة بالدين العام والمالية العامة، بَيد أنه بالنسبة الى الحالة اللبنانية كان ثمة خيارات أخرى لتجنب التعثّر غير المنظم. إذ يشير غبريل الى أنه “بغضّ النظر عن حجم الاحتياط في المصرف المركزي، كان يمكن تعليق دفع الفوائد واعادة جدولة الاستحقاقات أو اعلان حالة moratorium (تأجيل أو تعليق) وغيرها من الاحتمالات، خصوصا أن مبلغ استحقاق اليوروبوندز للعام 2020 لم يكن ضخما. فالاستحقاق الاول كان في آذار من ذاك العام وقيمته مليار و200 مليون دولار، والثاني في نيسان بـ 600 مليون دولار، والثالث في حزيران بقيمة 700 مليون دولار. أما الاستحقاق الذي يلي هذه الاستحقاقات فكان في نيسان 2021”.

واعتبر غبريل أن “قرار عدم السداد قرار حساس جدا، خصوصا أن لبنان بنى صدقيته الدولية بسبب نجاحه في كل الأعوام الماضية في سداد اليوروبوندز وديونه الخارجية، لذا كان يجب أن يسبق هكذا قرار بدء المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، وكذلك التواصل مع حاملي سندات اليوروبوندز لإعلامهم بحقيقة الوضع، ولكن للاسف هذا الامر لم يحصل”.

كان أمام الحكومة خيارات متعددة منها، وفق ما يقول غبريل “الاعلان عن وقف دفع الفوائد على هذا الاستحقاق، في مقابل تأكيد نيتها اعادة جدولة استحقاقات 2020، علما أنه كان لدى الحكومة الوقت الكافي لغاية 2021 للبدء بمفاوضة صندوق النقد بشكل رسمي بغية التوصل الى اتفاق على مستوى الموظفين، وكنا بذلك تجنّبنا التعثر وحافظنا على شيء من الصدقية”. فهل يمكن القول ان ما وصلنا اليه اليوم هو من جراء التعثر؟ يوضح غبريل: “صحيح أنه لا يمكننا القول إن الازمة بدأت مع عدم السداد، ولكن الازمة هي أصلا أزمة ثقة بدأت في أواخر العام 2017 وأوائل الـ 2018 بسبب قرارات الحكومة غير الصالحة للاقتصاد والمالية العامة، عدا عن قرارات كان يجب أن تُتخذ ولم تتخذ في ذلك الوقت. فأزمة الثقة التي بدأت في تلك الفترة تُرجمت من خلال تراجع السيولة في الاقتصاد اللبناني بدءا من أول 2018، ومن ثم توسعت الأزمة وتُرجمت بخروج الاموال من لبنان وتراجع تدفق الودائع ورؤوس الاموال الى لبنان، الى أن انفجرت في أواخر الـ 2019”. لكن غبريل يصر على ان “قرار التعثر غير المنظم عمّق الازمة. صحيح أنه خلال فترة 2018 كانت وزارة المال تجري عمليات مبادلة مع مصرف لبنان في ما يتعلق بسندات اليوروبوندز وسندات الخزينة بالليرة اللبنانية، إلا أن تصنيف لبنان الائتماني كان لا يزال B- ، ولكن في أول 2019 عندما نُسب الى وزير المال أن الدين بحاجة الى اعادة هيكلة خفضت “موديز” تلقائيا تصنيفها للبنان، وتبعتها وكالات التصنيف الاخرى، علما أنه حتى آب 2019 كان لا يزال تصنيف “فيتش” و”ستاندرد أند بورز” للبنان على B-، ولكنهما كانا يحذران من امكان خفض التصنيف اذا لم تبادر السلطات الى اجراءات اصلاحية فورية، الى أن وصلت هذه التصنيفات من الشركات الثلاث الى أدنى مستوى على سلّم التصنيفات الائتمانية للدين الخارجي”.

ليس خافيا أنه ما قبل التعثر وبسبب فقدان السيولة كان من الصعب على لبنان أن يصدر سندات جديدة للاكتتاب فيها من المصارف والمؤسسات المالية الخارجية، لكن “قرار التعثر الفعلي أدى الى تهميش لبنان عن النظام المالي والمصرفي العالمي”، وفق غبريل. وتاليا فإن احدى النتائج المباشرة للقرار هي عدم قدرة المصارف على فتح “اعتمادات للاستيراد كونها مضطرة الى ايداع مبلغ نقدي في المصارف المراسلة مقابل حجم اعتماد الاستيراد. في المقابل يضطر التاجر اليوم الى أن يحوّل الاموال نقدا الى الشركات في الخارج لكي يكون في مقدوره الاستيراد، عدا عن ذلك فإنه وتبعاً لقرار التعثر بدأت الشركات في الخارج تطلب الدفع المسبق قبل شحن البضائع الى زبائنها… وهذا الوضع لم يكن قائما سابقا”.

وإذا كانت الحكومة السابقة لم تبادر الى اجراء محادثات مع حاملي السندات، بما يبرهن أن القرار لم يكن جديا لدعم قدرات لبنان والحفاظ على مركزه وغيره من الحجج التي اعطيت في ذلك الوقت، بَيد أن الانكى أن الحكومة الحالية لم تتخذ قرارا ببدء المفاوضات مع هؤلاء، علما أن هذا الأمر هو في مقدم الاجراءات الاولية التي تضمّنها الاتفاق مع صندوق النقد.

ويعود غبريل الى الاسباب التي اعطيت لتبرير التخلف عن تسديد سندات “اليوروبوندز”، إذ كان مسوّقو عدم التسديد يرددون أنه يجب المحافظة على احتياطات لبنان بالعملات الاجنبية، حتى أنهم كان يقولون إنه كان الاجدى بمصرف لبنان عدم دفع المليار و200 مليون دولار التي استحقت في تشرين الاول من العام 2015. ولكن تبين لاحقا أن التعثر لم يكن للمحافظة على احتياط مصرف لبنان من العملات الاجنبية، بل كان الهدف استخدامه في دعم السلع المستوردة والتي كلفت ما بين 12 مليار دولار و15 مليارا، وهذا المبلغ أكثر بكثير من استحقاقات “اليوروبوندز” في العام 2020. ويعتبر أن “هذا الخيار فاقم الازمة، خصوصا ان اموال الدعم أفاد منها المهربون والمحتكرون وبعض المحظيين. اضافة الى ذلك، فإن قرار التعثر أفاد منه المضاربون في الاسواق الخارجية من خلال شراء عقود تأمين ( (credit default swap ومعظمهم جنى ملايين الدولارات”. ويخلص الى أن قرار التعثر أدى الى “تعميق الازمة، والى مزيد من شحّ السيولة بالعملات الاجنبية في الاقتصاد اللبناني، أو بالاحرى توقف شبه كامل لتدفق رؤوس الاموال من خلال القنوات الرسمية الى لبنان”.

ماليا، كانت للمصارف اللبنانية حصة الاسد من تبعات قرار التعثر. فالقطاع المصرفي الذي كان يحمل 14 مليار دولار سندات “يوروبوندز” قبل التعثر، وبما أن الحكومة لم تفاوض حاملي السندات، ومع مراوحة الازمة السياسية، وبسبب عدم القابلية لبدء الاصلاحات بشكل جدي، هبطت اسعار سندات “اليوروبوندز” لتصل الى نحو 6% من قيمتها وقت الاصدار، بما اضطُر المصارف للجوء الى الحصول على مؤونات على محفظة سندات “اليوروبوندز” التي تحملها.