Beirut weather 16.41 ° C
تاريخ النشر December 17, 2022
A A A
رئاسة الجمهورية بالمفهومين الحقيقي والتاريخي
الكاتب: طارق ترشيشي - الجمهورية

يعتقد المسيحيون في لبنان انّ هناك ثمة من يستهدفهم ويستهدف وجودهم، ويذهبون إلى الاعتقاد اكثر فأكثر، أنّ المكوّن الشيعي اللبناني هو الأكثر خطراً عليهم، لامتلاكه مشروعاً سياسياً مناهضاً للغرب الذين يعتقدون أنّه حامي وجودهم التاريخي وعلى استعداد لإرسال الأساطيل وحاملات الطائرات لحماية هذا الوجود.

وانطلاقاً من هذا الاعتقاد، يبني جزء من المسيحيين مقاربته لمسألة انتخابات رئاسة الجمهورية، معتقداً انّ وصول رئيس ذا ارتباط غربي مباشر، وهو المتعارف عليه في الخطاب السياسي اليومي بتعبير «السيادي»، ويصل الامر بهذا الجزء المسيحي حدّ الاعتقاد انّ وصول رئيس حيادي، يمكن ان يُسيطر عليه ويُملى عليه ما يجب القيام به.

ويقول عارفون، انّ هذه المقاربة هي «من قبيل الانتحار»، لمخالفتها ابسط المسلّمات الوطنية التي أثبت وجودها على مرّ التاريخ، وذلك للأسباب الآتي ذكرها:

اولاً- انّ المسلمين في لبنان بكافة مذاهبهم يؤمنون ويتشبثون بالوجود المسيحي في لبنان لأسباب اولها اجتماعية وثقافية وحضارية، ويعتقدون أنّ فرادة الصيغة اللبنانية هي التي تميّز لبنان عن بقية الدول ذات الغالبية الاسلامية. ومن هنا يتبين انّ كل مسلم لبناني حريص على تعزيز الحضور المسيحي ولكن بأسلوب مشرّف، لا يجعل من القيادات المسيحية تستقوي على من يؤمن بوجودها، أي بمعنى آخر، لا يجب على الطرف المسيحي ان يسعى الى التمدّد على حساب الطرف الآخر المؤمن بوجوده.

ثانياً- انّ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016 مع ما يمثله من قوة شعبية وسياسية بدعم الأطراف الاسلامية وخصوصاً «حزب الله» وتيار «المستقبل»، يؤكّد بما لا يقبل الشك أن ليس هناك من هواجس او رغبات اسلامية بالسيطرة على لبنان وتغييب القرار المسيحي عن المشاركة.

ثالثاً- من المفيد التذكير، انّه إبان الوجود السوري في لبنان، كانت المشاركة المسيحية في القرار ضعيفة، اما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، وفي ظلّ وجود «حزب الله» بما يمتلك من عناصر قوة سياسية وعسكرية، فأنّ كلاً من القطبين المسيحيين جبران باسيل وسمير جعجع يتزعمان اكبر كتلتين نيابيتين، فكيف يمكن تفسير الكلام عن هيمنة المسلمين، وتحديداً الطرف الشيعي منهم، على القرار السياسي؟

رابعاً- انّ قوة «حزب الله» لم ولن تتجّسد بقرار استراتيجي منه بأي طلب تعديل دستوري، على رغم انّ الايام والسنوات الماضية، وخصوصاً إبان أحداث الطيونة، أظهرت أن ليس للشيعة اي نفوذ او وجود على مستوى المناصب الدستورية والإدارية الحساسة، انما لا يزالون يدعون إلى الانفتاح والتواصل لمصلحة لبنان.

خامساً- انّ تأييد «حزب الله» وحركة «امل» لوصول رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجيه إلى رئاسة الجمهورية إن حصل عليه توافق وطني، يؤكّد المؤكّد من انّ الطرف الاسلامي عموماً، الذي يوحي بعدم ممانعته انتخاب فرنيجية، انّه لا يخشى وصول رئيس قوي الشخصية وسيّد قراره كفرنجيه، ولا يسعى إلى ايصال رئيس دمية إلى قصر بعبدا ليتحكّم به.

سادساً- انّ مطالبة رئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل سليل اكبر حزب مسيحي في لبنان، بأن يكون نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية 65 نائباً، أي الاكثرية المطلقة، وتصدّي المسلمين له، معتبرين انّ نصاب الثلثين هو لحماية المسيحيين، انما تؤكّد انّ البلاء المسيحي هو من بعض المسيحيين، وانّ الخطر عليهم هو من بعض المسيحيين أنفسهم، وليس من الأطراف الاخرى.

سابعاً- تناسى المسيحيون على مرّ التاريخ مَن عَرض ترحيلهم من لبنان، فالموفد الاميركي دين براون عرض هذا الامر على الرئيس الراحل سليمان فرنجيه عام 1975. كذلك تناسى المسيحيون ايضاً عرض الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من أنّ لا جدوى للوجود المسيحي في لبنان، ليتبين أنّ هناك رغبة اوروبية لتسهيل نقل المسيحيين اللبنانيين إلى بلدان اوروبية يتكاثر فيها المسلمون، وذلك بهدف إعادة التوازن بين الجانبين.

ثامناً- يروي الرئيس الراحل سليمان فرنجيه في مذكراته إلى «تلفزيون لبنان»، انّ مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز هو صاحب فكرة ترئيس مسيحي على لبنان، لأنّه اعتبر انّ هذا الرئيس في إمكانه ان يكون رسولاً للعرب لدى الغرب، وبالتالي في الإمكان اعتبار انّ فكرة لبنان في الأساس هي فكرة اسلامية.

تاسعاً- انّ المأزق الذي يعيشه المسيحيون في لبنان هو استنباط الثنائية المسيحية المتمثلة بـ»التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، والتي تضرب عرض الحائط التعددية السياسية على الساحة المسيحية، وبالتالي إن حصلت هذه التعددية لا تسمح برهن القرار المسيحي لدى هاتين القوتين اللتين تُعتَبَر إحداهما سبب وجود الاخرى، فإنّ تخاصمتا انقسم المسيحيون وتشرذموا، وان اتفقتا أُلغيت بقية الاصوات المسيحية. وهنا تتحمّل الاطراف الاسلامية مسؤولية هذه الثنائية، لأنّها إذا أرادت ان تحافظ على المسيحيين فعليها أولاً ان تعزز تعدديتهم من خلال التحالفات الانتخابية. وما يحصل اليوم في الانتخابات الرئاسية ما هو إلاّ دليلاً واضحاً على ذلك، فإن أيّد المسلمون وبعض المسيحيين رئيساً وطنياً، خلق «التيار» و»القوات» جواً مسيحياً معاكساً له يُحرج بقية الاطراف المسيحية. وتصديقاً لهذا الامر، نجد انّ «التيار الوطني الحر» قد لجأ إلى بكركي بعد خلافه الرئاسي مع «حزب الله»، بهدف خلق جو مسيحي معاكس يستند إلى اتهام المسلمين بفرض رئيس جمهورية عليهم، علماً انّ مكامن قوة كل من «التيار» و»القوات» هي من إيران ومن المملكة العربية السعودية، أي بمعنى آخر من قوى اسلامية.

عاشراً- انّ المسيحيين في لبنان هم في حاجة إلى رئيس جمهورية لا يشبه الرئيس عون لجهة مقاربته للملف المسيحي كما فعل إبان عهده، فهو قد استبعد المسيحيين من «قوات» و»كتائب» و»مرده» ومستقلين. فعلى الرئيس الجديد ان يكون خاضناً لهؤلاء جميعاً، حتى ولو اختلفوا بالاستراتيجيا، فيستطيعون من خلاله تنفيذ رؤيتهم، خصوصاً في طريقة بناء الدولة، بحيث يشعرون انّهم غير مغيبين لا بل هم ممثلون برئيس جمهورية قوي، يؤمن بالشراكة الحقيقية ويسعى إلى إزالة المتاريس الطائفية وتدوير الزوايا مع الآخرين، وتسيير عجلة الدولة والاقتصاد بهدف الحدّ من الهجرة التي أساءت للمسيحيين اولاً.
علماً انّ هناك ما يقارب العشرين نائباً مسيحياً لا ينتمون إلى تكتلي باسيل وجعجع، ويؤمّنون الميثاقية لأي رئيس يُنتخب ولا يحوز على تأييدهما. وكان لافتاً تأكيد النائب الان عون هذا الأمر لإحدى القنوات التلفزيونية.

حادي عشر- إذا كان للمسيحيين هواجس حقيقية، خصوصاً من «حزب الله»، فلا يمكن تبديدها برئيس ضعيف او برئيس تحدٍ، انما برئيس قوي يستطيع ان يحاور بنديّة وثقة واحترام مع الآخرين لما فيه مصلحة الجميع. اما تحميل هذا الرئيس وزراً اكبر من طاقته كنزع سلاح «حزب الله»، فيكون هذا الامر من قبيل الاستحالة، لأنّ بقاء هذا السلاح من عدمه هو اكبر من أي رئيس. إذ يكفي انّ هناك آلافاً من الملفات الاقتصادية والاجتماعية الشائكة التي تحتاج إلى حلول قبل البحث في أي أمر آخر، علماً انّ طرح مسألة الاستراتيجية الدفاعية هو حق للجميع وقابل للنقاش ضمن الأسس الموضوعية، وهذا ما شدّد عليه اخيراً نائب الامين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم.
يبقى انّ المواكبين للاستحقاق الرئاسي يرون انّ انتخابات رئاسة الجمهورية الحالية هي الفرصة الأخيرة لإنتاج حل مستدام، عبر رئيس جمهورية قوي بموضوعيته ورؤيته الوطنية الثاقبة، بحيث يعالج كمّاً من المشكلات السياسية التي تؤسس لانفراجات اقتصادية، بدءاً من الحوار الذي يشكّل المرتكز الأساسي للحل الشامل الذي يأخذ في الاعتبار تبديد الهواجس وعودة النازحين والانفتاح على الدول العربية والصديقة والحفاظ على الصيغة اللبنانية الفريدة التي إن تمّ الالتزام بها تشكّل صمام الأمان للبنان.