Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر March 28, 2022
A A A
كارثة غذائيّة في الأفق.. هذا ما دوّنته “الديار” في سطور افتتاحيتها
الكاتب: الديار

لا يُخفى على أحد أن الحرب الروسية – الأوكرانية أظهرت إلى العلن خطر التركيز في الإستيراد ‏خصوصًا في مجال الطاقة في دول أنظمتها جاهزة لإستخدام القوة العسكرية في حل المشاكل (سواء ‏كان ذلك عن وجه حق أو عن غير وجه حق). التعلّق الكبير للدول الأوروبية (خصوصًا ألمانيا) بالغاز ‏الروسي، وغياب الخيارات الأخرى أمام إستبدال هذا الغاز، سمح للكرملين بأخذ قرارات موجعة على ‏هذا الصعيد أولها حجب ثلث صادرات روسيا من الغاز الطبيعي عن أوروبا في وقت تتزايد فيه ‏المواجهات العسكرية في الداخل الأوكراني. وهو ما خفّض تخزين الغاز في أوروبا إلى مستويات ‏تاريخية ورفع من الأسعار بشكل غير مسبوق‎.‎
الأوروبيون رهينة
الروس الذين يُحاولون الضغط في الملف الأوكراني، وردًا على العقوبات التي فرضتها كلٌ من الولايات ‏المُتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي على روسيا، يُحاولون الضغط من اليد الموجعة أي من باب الغاز ‏الروسي إلى الأسواق الأوروبية. الجدير ذكره أن كل من بلغاريا، وإستونيا، وفنلندا، ولاتفيا، والسويد تتعلّق ‏بنسبة 100% بالغاز الروسي في إستهلاكها للغاز الطبيعي؛ وتشيكوسلوفاكيا بنسبة 80.5%، وسلوفاكيا ‏بنسبة 63.3%، وسلوفينيا 57.4%، واليونان 54.8%، وبولندا 54.2%، والنمسا 52.2%، وهنغاريا ‏‏49.5%، وبلجيكا 43.2%، وألمانيا 39.9%، وكرواتيا 37.1%، واللوكسمبورغ 27.9%، ورومانيا ‏‏24.2%، وإيطاليا 17.2%، وفرنسا 17.2%، وهولندا 5.2%.‏
عمليًا تُعتبر ألمانيا المُستورد الأول على مُستوى العالم، للغاز الطبيعي الروسي تليها تركيا، وإيطاليا، ‏وبيلاروسيا، وفرنسا، والصين… ونظرًا إلى وزن ألمانيا الإقتصادي، 4 تريليون دولار أميركي (الرابعة ‏عالميًا بعد الولايات المُتحدة الأميركية 20.5، والصين 13.4، واليابان 4.97)، فإن تأثير حظر الغاز ‏الروسي على ألمانيا قد يكون موجعًا بالنظرة الأولى.‏
ألمانيا والغاز الروسي
في دراسة نشرها عددٌ من الباحثين (‏Bachmann et al. 2022‎‏)، إنكشاف ألمانيا على قطاع الطاقة ‏الروسي من ناحية الإستهلاك الأولي للطاقة يتوزّع على الشكل التالي: النفط 34%، الغاز 55%، الفحم ‏‏26% مع معدّل 30% من إجمالي الإستهلاك الأولي للطاقة. وبالتالي قام الباحثون بوضع فرضيات على ‏قطع الغاز الروسي عن ألمانيا لمعرفة الكلفة على الإقتصاد الألماني وإستخدموا نماذج إقتصادية ‏‏(‏Baqaee-Farhi model, and ad-hoc model‏) ليتوصّلوا إلى أن نسبة هذه الكلفة إلى الناتج ‏المحلّي الإجمالي تتراوح بين 0.5 و3% في أقصى الحالات، أي ما يوازي 80 إلى 1000 يورو خسائر ‏على كل مواطن ألماني.‏
وبالتالي، فإن الإستغناء عن الطاقة الروسية بكل مكوناتها مُمكن، لكنه يفرض عددًا من الإجراءات: ‏إستبدال مصادر الطاقة، والبحث عن مصادر أخرى للتوريد، وخفض الإستهلاك، وخفض مدة التأقلم، ‏والقيام بإجراءات إستباقية، وقبول فترة من الأسعار المرتفعة، وزيادة فعالية البنى التحتية الحرارية، ‏ومُساعدة العائلات الفقيرة.‏
في المُقابل، فإن فرض العقوبات بالكامل على قطاع النفط والغاز الروسي، سيحرم روسيا من مداخيل ‏سنوية لا تقلّ عن 200 مليار دولار أميركي على إجمالي 490 مليار دولار أميركي مجموع الصادرات ‏الروسية في العام 2021 منها 240 مليار دولار لقطاعي الغاز والنفط. وهو ما قد يُشكّل مُشكلة كبيرة ‏لروسيا على المديين القصير والمتوسّط.‏
تطويق روسيا إقتصاديًا
لكن هذا الأمر لا يعني تطويق روسيا إقتصاديًا بهذه السهولة، حيث يبقى هناك مادتين أساسيتين لهما ‏تداعيات كارثية على الإقتصاد العالمي هما النفط والمواد الغذائية. فروسيا التي تُعتبر من المصدرين ‏الأساسيين في قطاع النفط، ستحجب عن السوق العالمي ما يوازي الـ 4.5 مليون برميل في اليوم وهو ما ‏يعني إرتفاعا في سعر برميل النفط إلى مستويات تتخطى الـ 200 إلى 250 دولارًا أميركيًا مع إحتمال ‏إرتفاع السعر أكثر من ذلك نتيجة المضاربة. وبالتالي فإن الإعتماد الأساسي يبقى على الدول الخليجية ‏الوحيدة القادرة على تغطية هذا النقص نظرًا إلى أنها الوحيدة من بين دول الأوبك التي استثمرت وتستمر ‏بالإستثمار في منشآتها النفطية. إلا أن العائق أمام هذا الأمر هو العلاقات الأميركية – الخليجية التي تمر ‏في مرحلة صعبة نتيجة المواقف الأميركية في الملف الإيراني والملف الحوثي. وبالتالي فإن أي رغبة ‏أميركية بتطويق روسيا على صعيد النفط مقرونة حكمًا بتحسين العلاقات الأميركية مع الدول الخليجية.‏
تبقى النقطة الثانية الأساسية إنسانيًا وأخلاقيًا، وهي مُشكلة المواد الغذائية الأولية. فروسيا وأوكرانيا تحتلان ‏المراتب الأولى عالميًا من ناحية تصدير الحبوب والزيوت خصوصًا إلى الدول الفقيرة. وبالتالي فإن أي ‏حظر من قبل الولايات المُتحدة الأميركية أو قرار عدم تصدير من قبل روسيا سيكون كارثيًا على الصعيد ‏الإنساني نظرًا إلى التعلّق الهائل لبعض الدول بالصادرات الغذائية الروسية والأوكرانية (على مقال لبنان، ‏واليمن، وسوريا، ومصر..).‏
الحل لهذه الأزمة لا يُمكن أن يكون إلا من باب البرنامج الغذائي التابع للأمم المُتحدة ومُنظمة الفاو. عمليًا، ‏التنسيق وحجز حصص للدول الفقيرة هما عنصران جوهريان نظرًا إلى أن القصر في المعروض سيرفع ‏من الأسعار وهو ما لا قدرة للدول الفقيرة على مواجهته.‏
ثمن مُرتفع لبنانياً
من ناحية لبنان القابع تحت أزماته المُتتالية في ظل إنقسام سياسي مُرعب، فهو يُعتبر من أكثر المُتضررين ‏عالميًا ومن المُرجّح أن يكون في المراتب العالمية الأولى على هذا الصعيد. إرتفاع أسعار النفط العالمية، ‏رفعت من أسعار المحروقات ومن أسعار السلع والمواد الأولية سواء صناعيًا أو زراعيًا، وهو ما ينعكس ‏تلقائيًا على المواطن اللبناني الذي يواجه نقصًا حادًا في دولار الإستيراد معطوفًا على إحتكار موصوف ‏وفساد مستشرٍ.‏
الدولار في السوق السوداء عاد إلى الظهور مع تزايد الطلب عليه نتيجة إرتفاع الأسعار عالميًا ومع ‏التطويق القضائي للقطاع المصرفي. وبالتالي فإن الإنعكاس على أسعار السلع والبضائع الأخرى يكون ‏فوريا في سوق “فلتان” من الرقابة وسوق لا يُمكن ضبطه من باب أخذ الناس رهينة على مثال ما يحصل ‏على محطات الوقود.‏
أزمة المحروقات المُستجدة في اليومين الأخيرين مردّها ليس النقص في المحروقات، بل نتيجة رغبة من ‏قبل قطاع المحروقات في لبنان بدولرة كاملة للقطاع على مثال ما حصل في المازوت بالإضافة إلى ‏تحرير السعر وعدم تحديده من قبل وزارة الطاقة والمياه. والأصعب في الأمر أن هذا القطاع لا يُريد ‏التعامل إلا بالكاش وهو ما يُعقدّ حياة المواطن التي هي أصلًا صعبة نتيجة تآكل قدرته الشرائية.‏
لكن الأخطر يبقى من دون أدنى شكّ الأزمة الثلاثية الأبعاد التي دخل فيها لبنان ومُرشّحة بقوة إلى ‏التعاظم، عنيت بذلك مُشكلة الكهرباء، مُشكلة المواد الغذائية، ومُشكلة دولار الإستيراد. إذ من المتوقع أن ‏يسوء وضع التغذية الكهرباء الآتية من مؤسسة كهرباء لبنان بشكل دراماتيكي نتيجة نقص الفيول بالتوازي ‏مع إرتفاع أسعار المازوت الذي سيرفع حكمًا من قيمة فاتورة المولدات الخاصة على المواطن وحتى لن ‏تكون هذه المولدات قادرة بدورها على الإستمرار على نفس وتيرة التغذية نظرًا إلى حاجتها إلى الإستثمار ‏وهو ما لا يحصل حاليًا.‏
أمّا غذائيًا وعلى الرغم من كل التصريحات بتأمين القمح والحبوب وغيرها من المواد التي تأثرت بالأزمة ‏الروسية – الأوكرانية، فلا شيء عمليًا تمّ التوصّل إليه بإستثناء بعض المساعدات الدولية على مثال ‏الإعلان عن المساعدة التركية (500 طن). وبالتالي فإن النقص سينعكس في الأسواق تدريجيًا على شكل ‏إرتفاع في الأسعار وهو ما سيحصل على أبواب الشهر الفضيل من دون أي قدرة للدولة اللبنانية على ‏مُساعدة شعبها وتبقى الأنظار مُسلّطة على المساعدات الخارجية ومساعدات القوى السياسية على أبواب ‏الإنتخابات النيابية.‏
أما على صعيد الإستيراد عامة، فإن المُشكلة تتمحور بنقص في دولار الإستيراد والذي يُترّجم تلقائيًا ‏بظاهرة من إثنتين: إمّا إرتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء أو نقص كبير في ‏السيولة بالليرة اللبنانية في حال كان هناك إستمرار بتطبيق تعميم 161.‏
هذه المشاكل الثلاث والتي تؤثر بشكل كبير على حياة المواطن وقد تؤدّي إلى التأثير على مجرى ‏الإنتخابات النيابية، لا تأخذ حيزًا كافيًا في القرارات الحكومية، وغطّت عليها الملاحقات القضائية في ‏القطاع المصرفي وحجبت الرؤية عن الكارثة المُقدمين عليها. وللذكر، فإن دولة مصر قامت بطلب ‏مساعدة صندوق النقد الدولي لتجاوز هذه المرحلة الصعبة بالنسبة إليها كما قامت بتخفيض سعر صرف ‏عملتها مقابل الدولار الأميركي في حين أننا في لبنان عاجزون عن إنجاز إتفاق على برنامج مع صندوق ‏النقد الدولي!‏
قانون الكابيتال كونترول
على صعيد الكابيتال كونترول، يلتئم المجلس النيابي غدا الثلاثاء لدارسة مشروع قانون الكابيتال كونترول ‏بعدما تأكد إستحالة موافقة صندوق النقد على أي خطة للتعافي من دون اقرار هذا القانون الاصلاحي. ‏ومع توقّعات ببروز خلافات واضحة بشأن اللجنة المرجعية التي يقترحها المشروع وتتعلّق بمبدأ ‏المُحاصصة المعطوفة على خلفيات سياسية وطائفية، يسود تفاؤل حذر من ناحية إقرار هذا المشروع الذي ‏سيكون بمثابة مبادرة إيجابية من قبل الدولة اللبنانية تجاه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي خصوصًا ‏أن بعثة صندوق النقد الدولي تصل إلى بيروت خلال الأسبوع المقبل، بهدف استكمال المفاوضات بشأن ‏ملفات محورية مع إلتزام الحكومة اللبنانية بإتمام الخطوات القانونية والإجرائية التي من شأنها تسريع ‏طرح الخطة الحكومية للإنقاذ والتعافي. ويُعتقد أن إجتماع اللجان المُشتركة اليوم لإقرار هذا المشروع ‏ورفعه إلى الهيئة العامة، يهدف قبل كل شيء إلى توحيد المواقف بين القوى السياسية وخصوصًا موضوع ‏اللجنة المرجعية.‏
لا حلول في الآفق
في الواقع، كل المؤشرات المتوافرة سواء سياسيًا أو إقتصاديًا أو ماليًا أو نقديًا أو قضائيًا، تُشير إلى أن لا ‏حلول في الآفق. ولعل المؤشرات السياسية هي الأكثر تعبيرًا حيث أن الإنتخابات النيابية وإن استطاعت ‏التغيير قليلًا في المشهد النيابي إلا أنها لن تُغيّر في الجوهر خصوصًا أن توازن القوى، بحسب خبراء ‏الإحصاءات الإنتخابية، باقية على ما هي عليه! وبالتالي فإن الصراعات السياسية والتي تنسحب حكمًا ‏على الإقتصاد والمالية العامة والنقد والقضاء باقية على ما هي عليه. وهذا يعني أن المفاوضات مع ‏صندوق النقد الدولي وإن كانت التصريحات الإيجابية تُشير إلى أنها على السكة الصحيحة، إلا أن الواقع ‏اللبناني يفرض واقعية أخرى وهي أن هناك إنقساما عاموديا بين القوى السياسية في لبنان ينعكس حكمًا ‏في الإقتصاد والمال والنقد والقضاء ويمنع الإصلاحات المطلوبة.‏
النظرة التشاؤمية هذه سببها كان وسيبقى الإنقسام السياسي الكبير وبالتالي يُمكن الجزم أنه إذا لم تُنتج ‏الإنتخابات النيابية أكثرية نيابية ذات رؤية إقتصادية مُوحدّة، فإن لبنان الذي نعرفه سيُكمل مسيرة التفكك ‏التي بدأها منذ عامين ونصف!‏