Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر October 9, 2016
A A A
حرب الثلاثين عاماً
الكاتب: نبيه البرجي - الديار

توالت في الآونة الاخيرة التعليقات، من هنري كيسنجر الى ريتشارد هاس ومن ثم اوبير فيدرين، التي تقارن بين ما يجري من صراعات دموية في المنطقة وحرب الثلاثين عاما في اوروبا خلال القرن السابع عشر..

هذه ليست عودة الى كارل ماركس الذي قال ان التاريخ يتقيأ نفسه، ولكن بصورة مضحكة. كثيرون تحدثوا عن قهقهات التاريخ، ولكن هل يضحك التاريخ حقا؟

المقارنة البانورامية، وحتى التفصيلية، تظهر الفارق البنيوي بين ما جرى في القارة العجوز حيث كان لتفاعلات عصر الانوار ان تنتج تلك السنوات التراجيدية الطويلة ما دامت هناك لحظة الانتقال الى زمن آخر، وبين ما يجري في الشرق الاوسط، وحيث الشيخوخة الايديولوجية والاستراتيجية ما دامت هناك لحظة الانتقال الى فصل آخر، حتما اكثر سوداوية، من فصول… العدم.

بانورامياً، يد واحدة تحاول ان تمسك بالكرة الارضية. لا تسألوا عن يد الله ( الذي كفت الامبراطورية الاميركية يده). جورج بوش الاب اعلن، وغداة زوال الاتحاد السوفياتي، قيام نظام عالمي جديد، وبقطب واحد، دون ان يكترث بقول زبغنيو بريجنسكي … «بل فوضى عالمية جديدة».

باراك اوباما لم يحد عن ذلك المنطق قيد انملة، وغداً هيلاري كلينتون. روسيا بعيدة جدا عن ان تكون الامبراطورية وان تكون القطب الاخر، وان لعبت تكتيكيا من ضفاف البحر الاسود والى ضفاف البحر الابيض (المتوسط).

الشرق الاوسط في حالة انهيار. حتى في اسرائيل يقارنون بين دافيد بن غوريون وبنيامين نتنياهو، وفي تركيا بين كمال اتاتورك ورجب طيب اردوغان، وفي ديار العرب (مضارب العرب) بين ابي ذر الغفاري وابي بكر البغدادي…

الثقافة في الشرق الاوسط جثة. ومن تركيا الى ايران ومصر وما بينها، العقل في غيبوبة الغياب او في غيبوبة الغيب. محمد اركون كان يتحدث عن تلك الجحافل من رجال الدين ( وقلة قليلة هي التي تدرك، في العمق، المعنى الالهي والمعنى الانساني) الذين يقفلون كل الطرقات الى… الزمن.

آنذاك، كانت اوروبا تعرف ليبنيز، وشكسبير، وثرفانتس، وديكارت، ودافنشي،وباخ، وهاندل. ذلك الطوفان من الفلاسفة والادباء والفنانين الذي دفع في اتجاه طوفان آخر، تمازجت فيه الفلسفة مع الايديولوجيا مع التكنولوجيا. حتى ان ثلاثة امسكوا بالقرن العشرين هم كارل ماركس، والبرت اينشتاين وسيغمند فرويد.

عندنا معاهد البحث دكاكين، الادمغة دكاكين، الاديان (المذاهب) دكاكين، وان كنا نقر بأن حرب الثلاثين عاما بدأت دينية بين الكاثوليك والبروتستانت لتتحول الى جيوسياسية وتنتهي بمعاهدة وستفاليا عام 1648.

شخصيا، زرت مدينة مونستر الالمانية، وتحديدا صالون السلام الذي وقعت فيه الاتفاقية. السلطات تركت هناك بعض الابنية و الكنائس التي احرقتها غارات الحرب العالمية الثانية لتبقى عبرة حول ما يمكن ان يحدثه قرع الطبول…

اما لماذا افتتن غانتر غراس بكونراد اديناور، فلأنه اقفل كل افواه (كل فواهات) التاريخ. هنا لا قهقهات بل دموع تصنع ذلك النوع الفذ من الحياة…

المقارنة جائزة في نقاط عدة. دول تحاول السيطرة على دول اخرى. استخدام واسع النطاق للمرتزقة، وجثث تتناثر (الموت في اللامعنى وفي اللازمن)، حتى ان عدد سكان المانيا انخفض بأكثر من 30 في المئة، وفي بعض المناطق ابيد نحو ثلثي السكان.
الجيش السويدي وحده دمر 2000 قلعة و18000 قرية، و1500 مدينة في المانيا…

الحرب انتجت فائضا في النساء، فأفتى الامراء المنتصرون بتعدد الزوجات وفقا لما ورد في العهد القديم. وفي مؤتمر عقد عام 1650 في مدينة نورنبرغ الالمانية اتخذ قرار جاء فيه «لا يقبل في الاديرة الرجال دون الستين، وعلى القساوسة ومساعديهم، ان  لم يكونوا قد رسموا كهنة، ان يتزوجوا»، وسمح للرجال بالاقتران من امرأتين…

ول ديورانت في «قصة الحضارة» قال «لقد افاقت التربة التي روتها دماء البشر» لتصنع دولا عظمى ومجتمعات عظمى. لا احد يتصور ان التربة عندنا، وبالرغم من كل تلك الدماء، ستستفيق ذات يوم بعدما تحولت الى…مقبرة عظمى. اين المقارنة؟!