Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر December 3, 2020
A A A
الاقتصاد المالي لم يعد في الجيب بل… في علم الغيب!
الكاتب: ذو الفقار قبيسي - اللواء

مع توقع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «عودة تدريجية لانتظام العمل المصرفي ابتداء من آذار ٢٠٢٠ بعد اتمام عملية رفع الرأسمال المتوقعة في شباط».. تبدو صورة مستقبل القطاع ثلاثية الابعاد بين البقاء على عدد المصارف الحالي اذا تمكنت كلها من زيادة الرأسمال، أو اندماج المصارف العاجزة عن الزيادة بمصارف اقوى كما قال حاكم مصرف لبنان، أو «تطعيم» الجهاز المصرفي الحالي برخص مصرفية جديدة وبرساميل كبرى كما خطة الحكومة الحالية بدعم من الرئيس عون وبعض المستشارين والمقربين، وهي الخطة التي رفضتها المصارف ورفضت معها مقاربة الحكومة لموضوع الخسائر ووصفتها بأنها محاولة لشطب رساميلها وأموالها الخاصة البالغة حوالي ٢٠ مليار دولار تمهيدا لوضع اليد على قطاع مصرفي اعتبرت إنها شيدته مع المودعين بـ«مال الجهد والتعب» و«ماء العين»!

ولو أن المصارف، كما تقرير جمعيتها عن العام 2019 تعترف «أنها وفرت للدولة جميع مقومات الاستمرار والتوسع بأكثر مما يجب، وتتحمل بذلك جزءاً من المسؤولية» (الصفقة 45 من تقرير جمعية المصارف) وتعترف في الصفعة نفسها انها «مولت مؤسسات القطاع الخاص وتوسعها دون أن تواكب هذا الأمر زيادة ملحوظة في رساميل تهذه المؤسسات التي اعتادت على النمو بواسطة الدين (الصفحة نفسها من التقرير) كما تعترف في الصفحة نفسها انها «لبت استهلاك الأفراد على سلع معمرة وخدمات وغير ذلك» ليصل التقرير في النهاية إلى أن هذا الوضع «قد تغير الآن وبات المطلوب رسملة أكثر ومديونية أقل لقطاع الخاص، وان القطاع المصرفي سيأخذ العبر في تخفيض الاستيراد والتركيز على الصناعة والتصدير ونمو الاقتصاد».

ومع ذلك فإن هذا الاعتراف الصريح في التقرير السنوي لـ«جمعية المصارف، يخلو من وصف النتائج وفي طليعتها أن أموال المودعين ما زالت مقيدة وجزء منها محظور على أصحابه، ومنها ان المصارف كانت دائما تسعى الى أرباح مجزية عن طريق تمويل اقتصاد الريع على اقتصاد الانتاج وبايداعات وادخارات تستثمر نصفها في قروض لقطاع عام بجهاز اداري غير منتج بحوالى 400 ألف موظف وعامل، وربعها لقطاع خاص تغلب عليه التجارة والعقار والخدمات والقروض الشخصية والوساطات، والربع الباقي سيولة واحتياطات. وكانت تغري الناس بالفوائد العالية. والآن باحتجازها دولارات الودائع. تغريهم بشراء العقار عبر شيكات مصرفية تتنقل من حساب على ورق الى حساب على ورق، تستمر الحالة نفسها في فوائد أو عقار في استثمار «أجوف» بديل عن استثمار ناشط في اقتصاد منتج يحقق النمو ويزيد فرص العمل. في ما يسميه الاقتصادي السويدي Kunt Wicksell الفارق بين الفائدة النقدية المصرفية والفائدة الانتاجية الطبيعية.

فهل ستتحول المصارف اذا حافظت لها التسوية المرتقبة على رساميلها واداراتها، الى الربح بالانتاج بدل الربح بالريع؟ أم أن العاصفة المالية التي مرت بها ستزيد في اصرارها على السياسة نفسها، بكل ما أدت اليه من ضعف النمو وشلل الاقتصاد؟!

والآن في المحنة الاقتصادية القاسية التي يمر بها لبنان بأكثر حكومات الاختصاص والتكنوقراط في فورة البحث عن قروض والتزامات، بدل الحذر من مخاطر المعرقل هذا الوضع الشاذ المولد «لجمود تراكمي» Cumulative معرقل للاستثمارات المجدية التي دونها تزداد البطالة وتتراجع المداخيل وترتفع الأسعار ويضطرب الأمن وتهرب الأموال وسط تحالف بين «الركود» و»التضخم» Stag-flation في حالة مشوهة مركبة يصعب فكفكتها تصيب مختلف القطاعات، حيث أصحاب الأعمال اذا لم يرفعوا أجور العمال تراجعت القوة الشرائية، واذا رفعوها ازداد التضخم في اقتصاد يفرز ريعا لا انتاجا ولا نموا، بل ركودا وبطالة وغلاء في Ricardo حالة شبيهة في توصيف الاقتصادي ricardo بـ«عربة يجرها حصانان كل منهما يسير باتجاه معاكس»! حيث أصحاب الأموال يستثمرون في قطاع «مسطح» مثل العقار أو «بربري» مثل الذهب أو راكد وديع مثل الوديعة، فيتعاظم الكساد وترتفع الأسعار وتزداد مطالبات العمال بأجور أعلى. ويرد أصحاب الأعمال بالمقابل بتسريح قانوني أو صرف تعسفي فـ»تنتعش» البطالة و«تتعزز» الفوضى و«تسود» الاضطرابات.

واذا كان بوسع الدول المتقدمة معالجة هذه «الكورونا الاقتصادية» بضخ أموال من فوائضها واحتياطاتها في عملية Kickstart أو حتى ولو بما يسمى Helicopter Money حسب عبارة Keynes لتحريك الطلب وتنشيط الاقتصاد وزيادة الانتاج، فان الدولة اللبنانية الغارقة في الديون والممتنعة عن الدفع لم يعد لديها من الفوائض المالية ما يمكن به شحن الاقتصاد بالسيولة المالية التي لم تعد في الجيب بل… في علم الغيب!