Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر August 27, 2020
A A A
“لبنان الكبير” ليس طابعا بريديا
الكاتب: فيرا يمين - موقع 5 نجوم

نحن على بعد أيام من مئوية لبنان الكبير، لبنان الذي “صاغه” راسمو خريطة المنطقة منذ مئة عام بمباركة دينية مارونية- سنية بين البطريرك الياس الحويّك والمفتي مصطفى نجا. ولو أن اسم البطريرك الماروني التصق بالإعلان حتى بات ذكر التاريخ موازياً لذكر البطريرك الحويّك فإلى دور غبطته الواضح والصريح كان الهدف “إرضاء” المسيحيين بوطن يشكّلون فيه أغلبية على عكس باقي دول المنطقة وعلى عكس اليوم.

‎ولكن السؤال هل حمت هذه الصيغة لبنان- الدولة أم أننا لم نشهد منذ مئة عام زمن الدولة ما خلا بعض المحاولات التي لم تترجم لأسباب داخلية لم تكن يوما داخلية بحت بل مرتبطة ومترابطة مع الخارج وفق منظومة الخوف الدائم على الطوائف. فظلمت الطوائف وتحكّمت الطائفية البغيضة بكل أوصال الوطن.
‎والسؤال الثاني هل حمت هذه الصيغة المسيحيين في الشرق وهم أبناؤه ومن صلبه بل هم صلبُه؟ أم أنها أسست لاحتقان دائم من صراعات دائمة وساهمت من غير أن تدري ربما بتفريغ الشرق من مسيحييه فيفقد بذلك روحه وغناه والكثير من تنوّعه.
‎نحتفل بالمئوية ولبنان الرسمي يصدر طابعاً بريديا في وقت فقد لبنان طابعه فلا تمكّن أن يكون دولة ولا استفاد من كونه ممرّاً وأضاع تميّزه كملتقى. تناثر الوطن أشلاء على ميدان الأطماع والمحاصصات والرهانات والمناكفات والمضاربات ما يدفعنا إلى السؤال بجدية عن “لبنان الكبير؟” من غير خوف أو وجل أو سوء فهم.
‎الهروب من النقاش يؤسس للكساد الفكري والخوف من المقاربة يوقعنا في مستنقع الإجابات النهائية غير المحرّضة على أي سؤال أو تساؤل.
‎طابع بريدي وأي صورة سيحمل؟ طابع يؤرّخ لتدهور اقتصاديّ، لهجرة جماعية، لكوارث بيئية، لانقسامات وفق المصالح، لسياسات مرحلية، لشهداء وضحايا وأشلاء من مرفأ بيروت إلى كفتون، للأوبئة، للحرائق، للساحات الملتهبة، للبوارج والسفن الغربية، لزيارة فرنسية ظاهرها إنساني وباطنها -ولو فيه بعض من إنسانية- رغبة للتحكّم من جديد، لأطماع عثمانية متجددة، لطوائف تتناحر تحت عنوان الخوف على الوجود.
عن أي طابع نتحدث وأين سنحفظه في حقيبة الهجرة أم في دفتر الذكريات المؤلمة أو تحت وسادة الأرق؟
‎عن أي وطن كبير نتحدث؟ لا يكبر الوطن إلا بأبنائه، ولا يكبر إلا بكفاءاته، لا يكبر إلا بحريّته، لا يكبر إلا بعزّته، بكرامته، بسيادته، بوحدته. أين لبنان الكبير من “لبنان الكبير”.؟ ألا يجوز حقّا وشرعا أن نسأل ونتساءل بطريقة واقعية وبعيدا عن التكاذب والغنائية؟
‎يجب البحث فعلا والقراءة في صيغة لم تعش يوما ولو أنها لم تدفن بعد. في ١٩٢٠ انطلقنا من النير العثماني إلى الاستعمار الفرنسي وفق لعبة التقاسم مع منحنا قدرة داخلية لا تتعدّى مستوى النكهة، وفي ١٩٤٣ نلنا الاستقلال مع نظام أسّس لاستغلال دائم، نظام طائفيّ ركّب على قياس التطورات او التغيّرات ما جعله هشّا وقابلا للاشتعال في أي لحظة. وما بعد الاستقلال كانت نكبة ١٩٤٨ التي تشظّت في جسم الكيان اللبنانيّ ولمّا تزل تتقرّح جراحاً. إلى اتفاق القاهرة الذي كانت ظروفه بحق لبنان قاهرة ومنه كان القرار بالحرب التي اندلعت في ١٩٧٥، حرب طائفية نالت من كل الطوائف وهدّدت الوطن-الرسالة وكانت الشرارة الفعلية لطرح التقسيم تحت مسميّات تجميلية أحيانا من فدرالية وكونفدرالية استنادا إلى أن لبنان سويسرا الشرق من منطلق قراءة مراهقة تدغدغ شعور طائفة أكثر من أخرى، وتحديدا الطائفة المسيحية التي يعتقد معظمها أن لبنان الكبير حيك لهم بدل العمل على تكريس وطن غنيّ بهم ومعهم فيما التقسيم زوال للجميع ولهم أكثر من غيرهم وفق الجغرافيا أو المقدّرات أو العدد أو الارتباط. إلى سنة ١٩٨٩ سنة ولادة الطائف الذي لا يزال في الحضانة فلا نما ولا كبر ولا نزال نؤرجحه سلبا أو إيجابا وفق المصلحة ووفق المقتضى، ولولا سنة ٢٠٠٠ حين تحررت الأرض لكان سمادنا زؤانا وقمحنا شعيراً. وفي ٢٠٠٥ حين استشهاد الرئيس رفيق الحريري خرجت سوريا من الباب لتدخل دول عدة من نوافذ مشرّعة لكلّ تدخّل بفعل عجز في الداخل. وفي ٢٠٠٦ كان العدوان فالانتصار الذي بدل أن نتوحّد حوله ونتبنّاه انقسمنا حوله وحوّلناه. إلى اتفاق الدوحة ٢٠٠٨ وكأنه ولد من صلب الطائف فكان له التطواف فانتخاب رئيس للجمهورية على أعقاب أحداث نهر البارد وبروز الجماعات الأصولية والإرهابية. إلى شغور رئاسي استمرّ لأكثر من سنتين لاستيلاد تجربة جديدة قد تؤسس لنهج جديد فكانت الخيبة وصولا إلى سنة ٢٠٢٠ التي لو استطعنا لأزلناها عن رزنامة العمر والزمن والحلم ولكننا ولا نزال نعبرها مقيّدين بسلاسل الفقر والجوع والموت والتشرّد والقهر والظلم والخوف والهروب والهجرة. يجب أن نطلق صرخة، صرخة تشقّ عباب السماء وتفتح دفّة العقل على مقاربة دقيقة لواقع مرير يجعلنا ننقّب بحبّ كبير عن “لبنان الكبير”. لبنان الوطن- الرسالة، لبنان الجبل الذي اعتبره الربّ وقفا له “أغمض عينيك هذا الجبل هو وقف لي لن تطأه قدماك لا أنت ولا الذي سيأتي من بعدك”.
هذا اللبنان المنذور للحياة بحاجة إلى أوكسيجين من صنع أبنائه، وطن يعمل لبناء دولة موحّدة، قادرة، مقاومة، مدنيّة، حاضنة لجميع أبنائها، غنيّة بالطوائف رافضة للطائفية، دولة تكسر العدوّ ولا تنكسر من خلافات الداخل.
لبنان الكبير ليس بحاجة إلى طوابع بل إلى تغيير الطبائع وصولا إلى طبعة واحدة للبنان واحد غير قابلة للتنقيح.