Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر August 20, 2016
A A A
حروب البترودولار وخفايا السياسة الأميركية
الكاتب: أسامة العرب - البناء

الجهلة فقط هم الذين صدّقوا جورج بوش الابن، حين قال إنّ أسلحة الدمار الشامل هي التي جعلته يهاجم ويغزو ويحتلّ العراق. وفي حين اعتقد معظمنا أنّ السبب هو سرقة نفط العراق، تبيّن لاحقاً أنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير. ولعلّ الكثير من الناس، وحتى المهتمّين منهم بالسياسة، لا يعلمون أنه في أيلول/ سبتمبر 2000، قرّر صدام حسين تحويل العملة المتداولة في بيع بترول العراق في برنامج الأمم المتحدة «البترول مقابل الغذاء» إلى البترو يورو الأوروبي بدلاً من البترودولار الأميركي. وقد كتب وليام كلارك في عام 2002 معلقاً على هذا التصرف من العراق «أنّ صدام حسين قد رسم قدره بيديه». ذلك أنه إذا ما بدأ صدام ببيع النفط العراقي باليورو، فإنه سوف يعرّض هيمنة الدولار للخطر باعتباره عملة التعامل النقدي الرئيسية في العالم، وإذا ما قدّر لهذه الخطوة أن تنجح وتتبعها دول أخرى فإنّ ذلك سيكون بمثابة إعلان انهيار كامل للاقتصاد الأميركي. فلدى الصين مثلاً أكثر من 800 مليار دولار احتياطي نقدي أجنبي، وعندما تبدأ إحدى الدول ببيع نفطها باليورو فسوف تقوم الصين بتحويل احتياطها من الدولار إلى اليورو لشراء النفط به، وهذا ما يعدّ بمثابة إعدام لأميركا.

كما أوضحت المعلومات التي تسرّبت من البيت الأبيض ومكتب ديك تشيني أنّ الإدارة الأميركية حينها قد دخلت معترك الحرب بغرض خلع صدام حسين والقضاء على تلك الظاهرة التي كانت قد بدأت تأخذ طريقها إلى بترول الشرق الأوسط وإلى استبدال الدولار الأميركي باليورو كعملة لبيع البترول، كما ذكرت «فايننشال تايمز». فالبترودولار لا البترول نفسه، هو ما يستأثر بالاهتمام الاستراتيجي للقوَّة العظمى في العالَم وكلُّ مَنْ يتمرَّد على نظام البترودولار، مقرِّراً بيع نفطه بغير الدولار بالذَّهَب أو باليورو الأوروبي أو بالين الياباني أو باليوان الصيني أو بالمقايضة، يَلْقى أشدَّ عقاب، وهذا ما أسماه وليم كلارك «حرب البترودولار». أما المثال الأقرب زمنياً على ذلك هو ليبيا، فعندما قرّر معمر القذافي بيع بترول بلاده بغير الدولار، تمّت تصفيته في تشرين الثاني 2011. ومؤخراً سُئلت مادلين أولبرايت: هل استحقت الحرب على صدام قتل 500 ألف طفل عراقي، أجابت: استحقّت.

وقد بيّن كلارك في مقاله «حرب البترودولار: الدولار واليورو وأزمة البترول الإيراني المقبلة» أنّ مسلسل المفاعلات النووية الإيرانية الذي صعَّدته الولايات المتحدة سابقاً، هو نسخة طبق الأصل عن كذبة أسلحة الدمار الشامل التي استعملتها لغزو العراق. ذلك أنّ هيمنة أميركا على العالم قد تأسّست من خلال همينة دولارها على التعامل الدولي للنفط، ما معناه أنّ على العالم أجمع أن ينتج بضائع يمكن بيعها للحصول على العملة الأميركية الخضراء لشراء النفط الذي يحتاجه، في حين أنّ الولايات المتحدة وحدها التي يحقُّ لها أنْ تشتري بوَرَقٍ، لا تُكلِّف طباعة الواحدة منها أكثر من 5 سنتات، كلّ ما تريد شراءه من نفط، ومن سِلَعٍ أخرى. ولقد صَدَقَ سابقاً ديغول، عندما وصف طبع الولايات المتحدة للدولار من دون غطاء ذهبي بأنَّه «سرقة مكشوفة وكبيرة». فعلى سبيل المثال، عندما تحتاج اليابان للنفط، تقوم باستبدال سيارات التويوتا مثلاً مقابل الدولار الذي أنتجته أميركا فقط من خلال النقر على مفاتيح حاسبها الآلي، ومن ثم تقدّم اليابان تلك الدولارات للدولة المنتجة للنفط للحصول على احتياجاتها منه. ومن ثم تقوم الدولة المنتجة للنفط أيضاً بمقايضة نفطها مع أميركا مقابل الدولار لتكوين احتياطي نقدي أجنبي لتوفير غطاء الثقة بعملتها الوطنية. كما تقوم كافة الدول الأخرى أيضاً بتكوين احتياطي نقدي أجنبي لديها بمليارات الدولارات من أجل تأمين احتياجاتها المستقبلية من النفط. إذاً فالنتيجة هي أنّ أميركا استوردت البضائع الأجنبية والنفط بالمجان، وهذه الديناميكية هي التي غطت العجز التجاري الأميركي لأكثر من 30 سنة بما يفوق عن 8 آلاف مليار دولار أميركي .

وقد كتب سوهان شرما وسو تريسي وسوريندر كومار ما يلي: «النفط يمكن شراؤه من الأوبك بالدولار فقط. والدول غير المنتجة للنفط مثل معظم الدول النامية واليابان يجب أن تبيع بضائع ومواد خام للحصول على الدولار الذي يستطيعون به شراء النفط، وإذا لم يستطيعوا شراء دولارات كافية فعليهم إذن الاقتراض من البنك الدولي او صندوق النقد الدولي الذي يجب أن يستردّ القرض مع الفوائد بالدولار أيضاً، وهذا طبعاً يخلق طلباً كبيراً للدولارات خارج الولايات المتحدة. أما بالمقارنة مع الولايات المتحدة نفسها فإنّ تلك الأخيرة هي الوحيدة التي تستطيع أن تطبع دولاراً تشتري به ما تشاء بدون أن تصدّر أو تبيع أيّاً من بضائعها». ولهذا، في قمة الأوبيك في أيلول 2000 قدم الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز تقريراً في الندوة الدولية حول مستقبل الطاقة أوصى فيه: «ان تستفيد الأوبيك من عمليات المقايضة الالكترونية والتبادلات الثنائية لنفطها مع زبائن الدول النامية»، لأنّ خطوة كهذه من شأنها أن تنهي هيمنة الدولار على تعاملات نفط الأوبيك.

وننتقل حالياً إلى ما يحدث على المسرح الدولي، فالقليلون جداً يتابعون عن كثب ما يجري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، فالأزمة المالية الأميركية والتي تحوّلت لاحقاً أزمة عالمية، كما الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي مؤخراً، ما هما إلا انعكاسات حتمية لحرب أميركا الناعمة على مشروع ربط النفط باليورو أو بسلّة عملات، ومحاولة متواصلة لتدمير الاقتصاد الروسي من خلال تخفيض الأسعار العالمية للبترول والغاز، باعتبارهما أهمّ مصادر الدخل القومي لروسيا. كما أنّ المحاولة ذاتها سبق أن تمّت بنجاح في عهد رونالد ريغان، حيث خفّضت أميركا أسعار البترول، ما ساهم بانهيار الاتحاد السوفياتي حينها. لكن التاريخ لا يعيد نفسه دائماً، ورداً على استمرار معركة طحن العظام لروسيا صرّح بوتين مؤخراً «علّمتني شوارع ليننغراد قبل خمسين سنة درساً: إذا كان لا بدّ من القتال فلتكن أنت البادئ أولاً»، ولهذا تبذل موسكو كلّ جهدها لمحاربة نظام البترودولار، ومؤخراً أجرى وزير الاقتصاد الروسي اليكسي اولياكاييف عملية «اجتثاث للدولار». بمعنى أنّ «تبديل العملة أمر تنفيذي»، وصدر بيان يؤكد أنّ «الحكومة لديها السلطة القانونية لإجبار الشركات الروسية للتعامل بالعملة الوطنية». كما قالت إيران بدورها إنها لن تبيع نفطها بالدولار في العقود الجديدة، ودعت الأوبيك إلى ربط نفطها بعملات أخرى. والأهمّ من ذلك أنّ الصين التي أصبحت منذ العام 2014، القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وروسيا التي تشكّل المنتج الأول للنفط والثاني للغاز في العالم، بدأتا معاً بإجراء مبادلاتهما التجارية بعملتيهما الوطنية. وهذا الهجوم على الدولار سيجبر البلدان الأوروبية المستوردة للنفط والغاز الروسيين على تسديد الحساب لروسيا بالروبل.

وتأسيساً على ما تقدّم، فلو أرست روسيا والصين وإيران سابقة ربط النفط بسلّة عملات عوضاً عن الدولار، فسوف تنتهي كلمة السرّ التي تبقي أميركا مهيمنة على العالم، ولن يكون بوسع تلك الأخيرة أن تكتفي بطباعة الأوراق النقدية لسداد ديونها الضخمة، ولا أن تواصل العيش بالمجان على حساب البلدان الأخرى. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا ما قدّر لهذا المشروع أن ينجح، هل تتحوّل حروب البترودولار الأميركية إلى حرب عالمية ثالثة؟
*

محام، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً