Beirut weather 18.54 ° C
تاريخ النشر October 16, 2019
A A A
تركيا ما بين الهاوية وأضنة
الكاتب: الوطن السورية

في أسوأ خياراته وتقديراته لم يكن رئيس النظام التركي رجب أردوغان يتوقع هذا التغيير الدراماتيكي المتسارع والذي لا يصب في خانة توجهاته ضمن المشهد العسكري السوري، والذي تمثل بثلاثة تطورات متزامنة، أولها بدء الانسحاب الأميركي من سورية وبروز نتائجه المخيبة للآمال التركية، وثانياً إقدام ميليشيات «قسد» بالمسارعة للتوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية ببعده العسكري لقطع الطريق أمام العدوان التركي، والثالث الناجم عن التطور السابق والمتمثل بالتقدم السريع للجيش العربي السوري من دون «إطلاق رصاصة واحدة»، باتجاه المناطق الشمالية والشرقية، وبما لا يمني النفس التركية الأردوغانية بتحقيق «الوراثة الاحتلالية» عن شريكه الاستراتيجي في الأطلسي كما وعده سابقاً.
هذه التطورات بأبعادها الثلاثية فرضت صيغة من النتائج الحالية والمستقبلية الآخذة في التبلور وفق منظور الأحداث والتطورات وصراع النفوذ والإرادات وفق التالي:
١- إنهاء الحلم الانفصالي لميليشيات «قسد» ونزولها من أعلى الشجرة كما ورد في بيانها بعد التوصل لهذا الاتفاق بأن هدفها ليس «انفصالياً»! بعد انغلاق جميع الآفاق أمامها سواء بالاعتماد على الغطاء الأميركي، وعدم إقدام الأوروبيين على إرسال قوات متعددة الجنسيات لحمايتهم، وإصرار النظام التركي على توسيع دائرة عدوانه بذريعتهم، والضغط الشعبي عليهم لعودة الدولة وتسليم الشريط الحدودي للجيش السوري وهروب بعض قياداتهم باتجاه جبال قنديل شمال العراق وانشقاق قسم من عناصرهم وهروبهم من بعض الجبهات.
٢- الاتفاق الذي ابتدأ باستكمال اتفاق منبج وأضيف له عين العرب لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد ليشمل باقي المناطق في المنطقة الشمالية الشرقية باتجاه الحسكة والمالكية عند نقطة التقاء الحدود السورية التركية وما تضمنه من مناطق وشبكة طرق مترابطة، وهذا سيشكل مسماراً قد يكون الأخير في نعش المشروع الأردوغاني «المنطقة الآمنة» لإقامة النظام المللي، والذي يهدف لاقتطاع شمال الجغرافية السورية من حلب حتى الموصل العراقية، فدخول الجيش السوري على سبيل المثال لا الحصر لمنبج وعين العرب يعني قطع التواصل بين قوات الاحتلال التركي في المناطق التي يحتلها بتل أبيض شمال شرق نهر الفرات بجرابلس غرب هذا النهر.
٣- الانسحاب الأميركي لم يعرف شكله وهدفه حتى اللحظة وهو الأقرب للانسحاب الجزئي في ظل تأكيدات أميركية بالاحتفاظ بقاعدة التنف، وقد يكون هدفه ليس كما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب برغبته بعدم المشاركة بحروب المنطقة العبثية، بل ليشكل انسحابه وإعطاؤه ضوءاً أخضر للعدوان التركي بداية لحرب معقدة في المنطقة، كما أن مصير إدارة سجون داعش لم تتضح بعد، هل ستسلم للحكومة السورية وهذا سيسرع التطبيع الأوروبي مع دمشق؟ أم إنها ستكون بإدارة «قسد» واحتمالية استخدامها فزاعة؟
٤- ستظهر هذه التطورات مدى تماسك أو هشاشة متانة العلاقة بين دول محور أستانا، فهذا المحور أمام خيارين، إما أن يظهر قدرته على احتواء العدوان التركي من قبل ضلعي المحور الآخرين، روسيا وإيران، لتذليل احتمالات المواجهة بين دمشق وأنقرة في عدد من المناطق التي يمكن أن يحصل بها تماس مباشر وبخاصة في منبج وعين العرب، عن طريق العودة لتفعيل اتفاق «آضنة» أو تعديله لتأطير خروج الاحتلال التركي زمنياً بناء على قاعدة الحفاظ على هذا المسار لتطويره مستقبلاً، أو أن تزداد هشاشة العلاقة بين دول هذا المحور والقائمة على تناقض المصالح والنفوذ، والمتمثل في عدم قدرتها على احتواء النفوذ التركي المتصاعد والذي عبر عنه مستشار الرئيس التركي ياسين اقطاي بداية، معتبراً أن الاتفاق بين دمشق و«قسد» مؤشر على عداوة تركيا وأن قوات بلاده ستقاوم الجيش السوري إذا دخل لمناطق شرق الفرات وتأكيد أردوغان فيما بعد على أنه «لن يتراجع عن هجومه في سورية مهما قيل»، وهذا قد يكون الهدف الأميركي من الانسحاب، لذلك قد تتوجه تركيا نحو التصعيد العسكري والسياسي من خلال:
أولاً: استغلال تركيا الوقت اللازم لانسحاب القوات الأميركية من الشمال السوري، للقيام بعمليات عدوانية جوية واسعة ودفع ميليشيات ما يسمى «الجيش الوطني» بكامل ثقلها لتحقيق تقدم في الجغرافيا التي يطمح إليها أردوغان لإقامة المنطقة الآمنة وفرضها كأمر واقع، وبخاصة أنه رفض منذ أيام أي وساطة أو مفاوضة في رسالة ضمنية برفض الدعوة الإيرانية للجلوس على طاولة الحوار بين تركيا وسورية و«قسد».
ثانياً: أن تزود المخابرات التركية جبهة النصرة وباقي التنظيمات الإرهابية المسلحة بأسلحة متطورة ونوعية لفتح أكثر من جبهة في إدلب وريفها وريف حلب الغربي وريف اللاذقية وإطلاق يدها في منبج، بهدف تشتيت واستنزاف الجيش السوري ومحاولة عرقلة تقدمه بأعداد كبيرة نحو مناطق الشمال الشرقي، وقد يلجأ النظام التركي لدفع المسلحين باستخدام الأسلحة الكيميائية في هذه الجبهات، لاتهام الحكومة السورية بذلك لوقف الانسحاب الأميركي والتعويل على صقور الإدارة الأميركية العسكرية لاحتواء قرار ترامب وخلط الأوراق مجدداً.
ثالثاً: إعادة توظيف داعش من قبل تركيا ولاسيما أن علاقة هذا النظام هي ارتباطية مع هذا التنظيم في ظل توافر المعطيات التالية:
• المحتجزون الأتراك لدى داعش الوحيدون الذين لم يتم قتلهم وتمت إعادة 47 من ممثلي تركيا الدبلوماسيين والعاملين في قنصليتها بالموصل والذين احتجزهم داعش أثناء احتلال الموصل عام 2014.
• داعش كان يعتمد بشكل كبير على تأمين موارده الاقتصادية من بيع النفطين السوري والعراقي وتهريب الآثار والمتاجرة بالأعضاء عبر صفقات موثقة مع شركات ووكلاء تابعين لحزب العدالة والتنمية بما في ذلك صهر الرئيس أردوغان، برات آلبيرق، مقابل إمدادهم بالأسلحة أيضاً.
• معظم عناصر داعش الذين هربوا من معركة الرقة ودير الزور دخلوا الأراضي التركية وتم نقل ثرواتهم، وتم في شهر أيلول الماضي نقل أكثر من 1100 عنصر منهم من الأراضي التركية نحو شمال إدلب وريف حلب الغربي ضمن دفعات اللاجئين الذين أجبرتهم تركيا للعودة ليكونوا ستاراً لنقل عناصر داعش الذين انضموا لما يسمى الجيش الوطني.
• تركيا استهدفت خلال أيام العدوان الماضية عدة سجون لداعش وهي لديها مصلحة في هروب هؤلاء من سجونها لعدة أسباب أهمها: تمكنهم من استثمار ظروف الفوضى للقيام بعمليات انتقامية ضد ميليشيات «قسد» بما يشتت الأخيرة ويضعف قدراتها الدفاعية ويخدم العدوان التركي ويسرع من عملياته بأقل الخسائر والتكلفة.
رابعاً: سياسياً من خلال سعي أنقرة بدفع ممثليه من المعارضة والمجتمع المدني بالتهديد بعدم المشاركة في اللجنة الدستورية.
من المؤكد أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الحكومة السورية و«قسد» سيشكل نقطة فاصلة ومحوراً أساسياً في التصدي للعدوان التركي وحماية السيادة السورية ولو اتخذ شكلاً عسكرياً بهذا التوقيت، ولكن يمكن أن يشكل أرضية خصبة ليطال الجانب السياسي، وهذا سيطرح ثلاث مقاربات: أولها استعادة الحكومة السورية للمنطقة الشمالية الشرقية يعني استعادة حقول النفط والسلة الغذائية الأكبر في سورية ما يعني كسر جزء من الحصار الاقتصادي، والمقاربة الثانية تكمن في تسلم الدولة السورية سجون داعش وهذا سيدفع الأوروبيين أو معظم دولهم للتنسيق العلني والدبلوماسي مع دمشق والانفتاح عليها بعد توافر مؤشرات إيجابية على اقتراب الانفتاح العربي، أما المقاربة الثالثة تكمن في خيارات أردوغان والتي تضعه بين خيارين أحلاهما مر، إما الاستمرار في العدوان وهذا يضعه على حافة الهاوية في مواجهة الضامن الروسي قبل الجانب السوري بالتزامن مع اتساع رقعة العزلة الدولية والإقليمية وزيادة العقوبات الاقتصادية عليه والتي ستنعكس سلباً عليه في الداخل التركي، أو النزول من أعلى شجرة طموحاته نحو التنسيق مع دمشق بما تتطلبه اتفاقية أضنة.