Beirut weather 14.41 ° C
تاريخ النشر September 28, 2019
A A A
لا أزّمة نقدية ولا مالية.. بل أزّمة إقتصادية ناتجة عن غياب الإستثمارات
الكاتب: الديار

النظرية الإقتصادية تنصّ على أن النشاط الإقتصادي الذي يحصل بين الأسر والشركات هو الأساس في الإقتصاد. ويُسمّى هذا النشاط بالدورة الإقتصادية ويشمل نوعين من التبادل بين هذين الفريقين (أي الأسر والشركات):

الأول – وهو عبارة عن بيع سلع وخدمات من الشركات إلى الأسر وذلك مقابل أجر مالي؛

الثاني – وهو عبارة عن تقديم يدّ عاملة من الأسر إلى الشركات وذلك مقابل بدل مالي.

الثروات التي تنتج عن هذا التبادل تُسمّى الناتج المحلّي الإجمالي وزيادته السنوية تعني أن هناك نموّ إقتصادي. هذا النموّ هو موضوع ضرائب تفرضها الحكومة على هذا النشاط وتُسمّى هذه الضرائب بإيرادات الدوّلة. وتستخدم الحكومة هذه الإيرادات بهدف تقديم خدمات للشعب والشركات كما ودفع أجور موظفيها وكلفتها التشغيلية. وهذا ما يُسمّى في الإقتصاد بالمالية العامّة.

إذًا المالية العامّة هي عبارة عن:

– إيرادات تُحصّلها الدوّلة من ضرائب على النشاط الإقتصادي؛

– وإنفاق عام يشمل تقديم الخدمات للمواطنين والشركات وتغطية كلفتها التشغيلية.

وعندما تكون الإيرادات أقلّ من الإنفاق، ينتج عن ذلك العجز الذي تعمد الحكومات إلى الإستدانة في الأسواق لتغطيته. وهذا ما حصل في لبنان منذ الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا! فالدوّلة أهملت النشاط الإقتصادي بشكل كبير وركّزت السياسات الإقتصادية على قطاع الخدمات الذي أمّن نموًا كبيرًا في الأعوام 2007 إلى 2010. إلا أن هذا النموّ لم تكن له أسس صلبة كما قال تقرير البنك الدوّلي في تقريره في 15 تشرين الأول 2017، لذا وعند بدء المشاكل السياسية والأمنية الناتجة عن الأزمة السورية، أخذ الإقتصاد بالتراجع بسبب غياب الإستثمارات مع إرتفاع الإنفاق العام نتيجة الفساد المُستشري ونتيجة التوظيف العشوائي وسياسة الإستدانة اللا محدودة التي تمّ إتباعها على مدى عقود، كل هذا في ظلّ تراجع الخدمات العامّة إلى مستويات جعل لبنان في المراتب الأولى من ناحية سوء الخدمات.

ومن أكثر ما نسمعه اليوم عن هذا الموضوع هو ما يُسمّى بعجز ميزان المدّفوعات الذي يعني بكل بساطة كمّية الأموال بالعمّلة الصعبة التي تخرج من لبنان سنويًا أي بمعنى أخر الكمّية التي يفتقر فيها لبنان سنويًا.

خروج الأموال هو نتاج الإستيراد الكبير الذي يقوم به اللبنانيون (15 مليار دولار أميركي سنويًا) والحكومة اللبنانية (5 مليار دولار أميركي سنويًا). ويعود هذا الكمّ الهائل من الإستيراد إلى عجزّ القطاعين الصناعي والزراعي عن تلبية حاجة السوق اللبناني!!! وهنا تكّمن المُشكلة الأساسية.

إذن ولإختصار المُشكلة يُمكن القول: مُشكلة لبنان تكّمن في إقتصاده!

دعم الإقتصاد

السياسة التي تعتمدها الحكومة لإدارة القطاعات الإنتاجية والخدماتية تُسمّى بالسياسة المالية (لا يجب مزجها مع السياسة النقدية التي هي من مهام المصرف المركزي). وتتمتّع الحكومة بثلاث أدوات رئيسية لتنفيذ سياستها المالية:

أولا – الأداة الضريبية التي تستخدمها لتحفيز قطاعات مُعيّنة مثل خفض الضريبة على بعض الأنشطة أو رفع الرسوم على إستيراد سلع مماثلة للسلع المُنتجة محليًا (سياسة حمائية)؛

ثانيًا – الأداة التشريعية عبر خلق مناخ مؤات لجذب الإستثمارات الداخلية أو الخارجية مثل تسهيل المعاملات الإدارية؛

ثالثًا – الأداة المالية عبر قيام الدوّلة بالإستثمار بنفسها في الإقتصاد (نظرية كنيز وتحفيز الإقتصاد).

ما دعم النمو الإقتصادي في الأعوام 2007 إلى 2010، هو الإستثمارات الأجنبية المباشرة التي قام بها الخليجيون في لبنان. إلا أن الخطأ الذي تمّ إرتكابه أنذاك هو أن هذه الإستثمارات كانت في قطاع الخدمات دون القطاع الصناعي أو الزراعي ومع أول «ضربة كف» حصلت، إختفى النمو الإقتصادي!

أيضًا لم تقم الحكومات المُتعاقبة بوضع سياسيات لتحفيز القطاعين الصناعي والزراعي مما أدّى إلى تآكل هذين القطاعين بشكلّ كبير حتى وصل مستوى الصادرات إلى أقلّ من 2.6 مليار دولار أميركي سنويًا مقابل 20 مليار دولار أميركي إستيراد.

وحده حاكم مصرف لبنان قام بدعم القطاعات الإنتاجية برزم تحفيزية منذ العام 2013 وحتى الساعة (أخرها كان إطلاق برنامج دعم للقطاع الصناعي مع وزير الصناعة وائل بو فاعور). إلا أن ما يجب قوّله أن هذا الأمر هو من مهام الحكومة بحكم أن السلطة النقدّية تقتصر مهامها بحسب الأولويات على الحفاظ على النقد وإعتماد سياسة نقدية مؤاتية للنمو الإقتصادي. أيضًا يُمكن ذكر السياسة الحمائية التي تمّ وضعها في موازنة العام 2019 والتي تمّ إقرارها منذ ما يقارب الشهرين.

إذًا ما هو مطلوب من الحكومة على هذا الصعيد:

أولا – خلق مدن صناعية ملك للدوّلة مع بنى تحتية مؤاتية تسمح للمستثمرين بإنشاء مصانع لسدّ حاجة السوق اللبناني بالدرجة الأولى (لائحة أول خمسين منتج يستوردهم لبنان للإستهلاك).

ثانيًا – دعم الإستثمارات في القطاعين الزراعي والصناعي من خلال الأداة الضريبية ومن خلال تحرير مناخ الأعمال من القيود الإدارية والإحتكارية التي تُثقله؛

ثالثًا – محاربة الفساد الذي يُعتبر العدوّ الأول للإستثمارات سواء كانت داخلية أو خارجية.

رابعًا – توسيع رقعة الرسوم الإستثنائية على كل المنتوجات الصناعية والزراعية بشكل مُطرد.

ولمن يقول أن هذا تنظير، نقول له أنظر إلى البيانات الجمّركية لتعرف أن لبنان يستورد بقراً حياً ولحوم أبقار بقيمة 540 مليون دولار سنويًا! هل من الصعب إنشاء مزرعة أبقار؟

أيضًا يكفي النظر إلى البيانات الجمّركية لمعرفة أن لبنان يستورد زبدة ومُشتقاتها بقيمة 50 مليون دولار سنويًا! هل من الصعب إنشاء معمل إنتاج زبدة؟

على كل الأحوال يجب معرفة أن القطاعين الصناعي والزراعي لهما تداعيات إيجابية على حجم النمو الإقتصادي. والأهمّ أن توزيع الثروات في الإقتصاد هو العنصرّ الرئيسي في إستدامة هذا النمو!

البنى التحتية

تُعتبر البنى التحتية الأسسس التي تُبنى عليها الإقتصادات. من هذا المُنطلق، نرى أن كل دول العالم تهتمّ ببناها التحتية والتي تضم (لائحة غير مُكتملة): الكهرباء، الطرقات، وسائل النقل، الإنترنت، المدن الصناعية، المياه…

إذا أخذنا مثالاً القطاع الزراعي، نرى أن المُعدّات التي تُستخدم في الزراعة وأنظمة الريّ والطرقات لإيصال المحصول إلى الأسواق هي شقّ أساسي من البنى التحتية. هل يُعقل أن 60% من المياه المهدورة في لبنان يتمّ هدّرها في الريّ؟

أيضًا إذا أخذنا القطاع التكّنولوجي، تُعتبر المدن التكنولوجية أو المراكز التكنولوجية من البنى التحتية حيث يتمّ مثلا وضع الجامعات، القطاع الخاص والدّولة في شراكة فعلية لخلقّ أفكار صناعية جديدة قابلة للتطبيق. هل من الصعب مثلا خلق مدن تكنولوجية تكون معفية من الضرائب كليًا حيث تقوم الشركات بالإستثمار في الطاقات الشبابية وبإستخدام البنى التحتية البحثية التابعة للجامعات؟

بالطبع كل هذا ليس بالصعب، بل جلّ ما يتطلّبه هو الإرادة السياسية للقيام بذلك.

لا أزمات مالية ولا نقدية

كما سبق الذكر، الإقتصاد هو الأساس! بدون ماكينة إقتصادية قويّة ومع وجود إنفاق مُفرط، تتضرّر المالية العامّة وحتى النقدّ. الثروات التي تخلقها الماكينة الإقتصادية هي الكفيلة بتغطية الإنفاق ودعم النقد الوطني.

في لبنان الوضع الإقتصادي في حال تآكل مُستمر نتيجة غياب الإستثمارات التي تعتبرها النظرية الإقتصادية «وقود الإقتصاد».إذًا لا حلّ للمشاكل في لبنان إلا من خلال تقوية الإقتصاد.

في خلال الفترة التي يتمّ فيها تنفيذ الإجراءات الآنفة الذكر، يتوجّب على الحكومة لجم الإنفاق وتحصين الإيرادات وذلك من خلال عدّد من الخطوات، نذكر منها:

أولاً -محاربة الفساد الذي يُعتبر المسؤول عن خسارات هائلة في المالية العامّة كما وأنه العدوّ الأساسي للإستثمارات.

ثانيًا -وضع نظام ضريبي عادل يعتمد على الضريبة التصاعدية ويؤمّن آمان إجتماعي أكبر.

ثالثًا – وقف الهدر المُتمثّل بكل الإنفاق غير المُجدي كما ووقف المشاريع «التنفيعة» التي يُعطيها علم الإقتصاد لقب «الفيل الأبيض».

رابعًا – تحصين الجباية ومحاربة التهرّب الضريبي والتهريب الجمّركي.

خامسًا – إعتماد مبدأ المحاسبة في المناصب العامّة عملا بمبدأ «لا مكان لمن لا يعمل»! ألم يقم دونالد ترامب رئيس أول دولة في العالم بتغيير طاقمه عدّة مرّات؟

إن التوقّعات بعجز بقيمة 4.1 مليار دولار أميركي في العام 2019، لن يكون على الموعد أغلب الظنّ. وبإعتقادنا وعملا بمبدأ «الإنيرثيا» المعروف في الإقتصاد، فإن العجز الذي سيتمّ تحقيقه في أواخر العام 2019 سيكون في أغلب الإحتمالات بحدود الـ 6 مليار دولار! لذا قد يكون عامل الوقت حاليًا هو الأكثر خطّورة في تاريخ لبنان ولا تتمتّع حكومة «إلى العمل» بترف الوقت.

في الإنتظار، لا أزمّة مالية ولا نقدية بحكم أن إستحقاقات الدوّلة مؤمّنة من قبل مصرف لبنان كما أن الليرة اللبنانية محمّية من قبل إحتياط يبلغ 38.6 مليار دولار أميركي من العملات الأجنبية و15 مليار دولار أميركي من الذهب. كل هذا بفضل سياسة الثبات النقدي التي يتبعها مصرف لبنان.