Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر May 20, 2016
A A A
راهب العروبة
الكاتب: الدكتور فيليب سالم - النهار

البارحة، مات صديقي. لم يكن صديقي رجلاً تقليدياً. كان المسيحي الذي دافع عن الاسلام ، واللبناني الذي دافع عن العرب. كان صديقي رائد الفكر القومي العربي. كان راهب العروبة. كان كلوفيس مقصود صديقي.

تعرف الى العروبة في البيت، وكانت والدته ماري معلمته الاولى في القومية. أمضى العمر يدافع ويكتب ويتكلم عنها. أمضى العمر يحلم بها. ولما رأى العروبة تموت وتدفن في الرقة، أغمض عينيه ومات.

يقول آرثر كوستلر في كتابه “ظلام عند الظهيرة”: “يهون على المرء ان يموت بعد ان يرى ارض الميعاد”. لكن كلوفيس لم ير ارض الميعاد. رأى ارضاً تحترق. من فلسطين الى دمشق الى بغداد الى اليمن الى ليبيا. رأى أرضاً تشتعل. أرضاً تغتصب. أرضاً يغتصبها العنف ويحكمها الحقد. رأى القومية العربية تتلاشى أمامه كالسراب ورأى الانتماء الى الوطن ينحدر الى الانتماء الى الطائفة. لذا كان صعباً عليه ان يموت.

كان قومياً عربياً. عاش ومات قومياً عربياً. ولم يترهب أحد للقضية الفلسطينية وقضايا العرب كما ترهب هو. لقد احب العروبة حتى الثمالة، فأصبحت العروبة تحدد هويته الفكرية والكيانية. سواء وافقته في الرأي ام اختلفت معه كان لا بد أن تحترمه، لأنه كان صادقاً في رأيه، بريئاً في عناده. كنت تحترمه لأنه كان ملتزماً فكره. قلائل هم المفكرون العرب الذين التزموا فكرهم. ان تقول شيئاً وتعمل عكسه أمر معتدل في العالم العربي، فالانفصام بين القول والفعل هو من علل الشخصية العربية. كان الفكر ولا يزال عند البعض سلعة تجارية. يأخذونها الى السوق ويعرضونها للبيع. لم يكن كلوفيس واحداً من الذين تاجروا بفكرهم. ولم يكن واحداً من الذين يلهثون وراء رجال المال والسلطة. كان دائما المفكر الحضاري الملتزم قضايا شعبه وقضايا أمته. لقد عمل في السياسة وتعامل مع السياسيين، الا انه لم يصبح يوماً واحداً منهم. وعندما خذله العرب في آب 1990 استقال من جامعة الدول العربية ومن منصبه سفراً للجامعة لدى الأمم المتحدة وعاد الى بيته. وبدل ان يهزمه اليأس انتصر عليه والتحق بالجامعة الاميركية في واشنطن وأسس برنامج عالم الجنوب. عالم الفقراء والمقهورين.

لقد كان الموت كريماً معه. فقد انتظره حتى انتهى من كتابة مذكراته وجمعها في كتاب ” من زوايا الذكرة”، الطبعة الاولى، ثم الطبعة الثانية. لم يبق من الكلام الا القليل. عندذاك ترك كتبه وأوراقه ورحل. ترك وراءه أكواماً من الورق وأكواماً من الذكريات. ذكريات تمتد على مساحة الارض. من بيروت الى القاهرة الى الهند الى الامم المتحدة في نيويورك الى واشنطن. حياة صاخبة. فيها الكثير من العنفوان والكثير من الدفاع عن الكرامة. فيها الكثير من التمرد. لم يكن كلوفيس شاهداً على عصره بقدر ما كان ثائراً عليه.
انه لمن المستحيل ان تختصر رجلاً في مقال أو كتاب. فالإنسان أكبر بكثير من الكلام، هناك أشياء لا تحددها الكلمة. لكنني أود الكلام عن ثلاثة مبادئ كان كلوفيس يؤمن بها: القومية ، المواطنة والحضارة. كانت القومية محور فكره. القومية بمعناها الواسع: الانتماء الى الوطن فوق كل الانتماءات والولاء للوطن فوق كل الولاءات. وكانت المواطنة همه الكبير.

كيف نصنع مواطنين لا رعايا؟ كان يؤمن بفصل الدين عن الدولة، ويعمل من أجل الدولة المدنية. عند معظم العروبيين، كان دين العروبة الاسلام. أما عنده فكان دين العروبة المواطنة. وفي الحضارة، كان نموذج “المثقف” الذي كتب وتكلم عنه أدوار سعيد. كان التزامه الإنسان المطلق أقوى من التزامه الإنسان العربي. وكان التزامه حضارة العالم أقوى من التزامه حضارة العرب. لم يكن ضمير العرب بقدر ما كان ضمير جميع المظلومين.
حكاية صداقة طويلة، حسبناها لن تنتهي. فالمرء يظن ان الذين يحبهم لا يموتون. كل يوم، كان الهاتف يدق في مكتبي. انها الثامنة مساء. انه كلوفيس. يتقصى أخبار الاصدقاء والاحباء وأخبار العالم العربي ولبنان والصحف. “ماذا جاء في الصحف؟ ومن كتب افتتاحية ” النهار” لهذا اليوم؟ هل قرأت مقالتي في “الشروق”؟ ولماذا انت صامت على كل ما يحدث في لبنان؟”

لم نتفق على كل شيء . كنا نختلف في أمور عدة. كنا نختلف، ولكن لم نكن يوما واحدا في خلاف. كنا كلما اختلفنا نرتفع الى الحضارة. فالحضارة تحترم الرأي المختلف. كنا كلما اختلفنا نرتفع الى المحبة. فالمحبة تصهر كل شيء.
في الثامنة مساء اً لن يدق هاتفي بعد اليوم. انه الموت. انه الصمت الابدي. كنت أنت سيد الكلمة؛ ولكن هل هناك يا ترى كلام بعد الموت؟ وهل يا ترى سترى صديقنا وحبيبنا غسان؟ قل له إننا اشتقنا اليه.
نم هانئا يا صديقي. “لقد أبليت البلاء الحسن”. ستغمرك الارض غداً وستعود الى بيت “أبيك” . فليعانقك الرب الاله بكل محبته. اذكرنا في صلواتك، كما نذكرك نحن في صلواتنا ونقول “ليكن ذكرك مؤبداً”.
ثابتون في محبتك. حتى نلتقي.