Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر May 10, 2016
A A A
على أبواب زمن المحاسبة
الكاتب: داود الصايغ - النهار

“ما نفع نشر الغسيل القذر إذا لم تكن هنالك نية لغسله؟”
قولٌ فرنسي
*

ليس لبنان بلد الفضائح. لا يشبه لبنان مسلسل الشاشات النهمة للإثارة، والذي وصل مع البعض حد تنصيب أنفسهم ديانين، في ما يتجاوز المهمة والإنضباط المهني والقانوني، وعدم التوقف حتى عند حرمة الحياة الخاصة.
لا يشبه لبنان مسؤولين ضيعوا البوصلة في تحمل المسؤولية، فأطلقوا إتهامات بالفساد بحق زملاء لهم في الحكم، كأنهم يلقون نكتة عابرة يعرفون سلفاً أن الإعلام سيتناقلها، ليعودوا في اليوم التالي ويجلسوا معاً كأن شيئاً لم يكن، ومن غير أن يتحرك المحاسبون على الصعيد القانوني أو السياسي.
فممارسة الحكم لا تتم على الشاشات لمن يفهم معنى تحمل المسؤولية. لأن الإعلام له حدوده ومجاله. فالمسؤول الحقيقي أكبر من الإعلام كما هو أكبر من المال.
ليس لبنان بلد الفساد. فالفساد موجود في كل مكان وزمان. إنه بلد عدم المحاسبة. فلو حصل في أي بلد يحترم الأصول الديموقراطية ما يحصل في لبنان من إتهامات يومية وإعلان عن فضائح، لأستدعي الجميع الى المحاسبة. لأنه حتى الآن لم يحاسب أحد أحدا ً في لبنان. وهذا هو الفرق وكل الفرق مع الديموقراطيات المتقدمة التي تحاسب، وتحاسب بقسوة أي مسؤول فاسد أو مستفيد، أكان ذلك على الصعيد العام أم الخاص.
فالفساد، أي إغراء المال، هو أقدم “ممارسة” في العالم. ليس هنالك من مجتمع نجا منها قديما ً وحديثا ً. “لا تعبدوا ربين الله والمال” قال المسيح، أي أنه وضع المال في مرتبة الرب الثاني. فهنالك دوماً سارقون أو مستفيدون أو مستغلون، على رغم كل تعاليم الديانات والحكماء والأنبياء ووصايا الله.
لكن المجتمعات المتقدمة، والتي وصل بعضها على صعيد قيم المجتمع والحياة الفردية حدودا ً غير مسبوقة في تحرير الحياة الخاصة، بقيت شديدة الصرامة في الحياة العامة. بقي لديها هاجس أساسي واحد هو عدم إستغلال المسؤول مركزه. إنهم أجازوا زواج شخصين من جنس واحد، وأقروا ذلك في القوانين، لكن سرقة المال العام أو التهرب من دفع الضريبة بقيت الجريمة الكبرى، والقيمة الأساسية المحترمة. لذلك دمرت الحياة المهنية لعدد غير قليل من السياسيين في البلدان الأوروبية والغربية الذين احيلوا على المحاكمة أو نفذوا عقوبات في السجن. إفعل ما تشاء ولكن لا تسرق المال العام أو تستغل وظيفتك، تكاد تكون الوصية الأولى.
في لبنان كلام كثير تغرق به وسائل الإعلام ويصيب الناس بالإحباط ويزيد في إبعادهم يوما ً بعد يوم عن الدولة. إذ ليس هينا ً أن يصف المتظاهرون أعضاء السلطة والزعماء السياسيين بأنهم سارقون ويرفعوا في اللافتات صور مسؤولين يصفونهم بالفساد. ثم لا يحصل شيئاً.
كان الفساد رفيقا ً دائما ً للحياة السياسية في لبنان. ولكن ليس نظام الحكم هو الذي أفرزه، ولا حتى المحاصصة الطائفية، التي إحتمى بعض الفاسدين بها في سبيل الإفلات من الحساب.
فرض فؤاد شهاب القدوة والإنضباط، فانضبط السياسيون وأهل الإدارة، محتقرا ً “أكلة الجبنة” من موقعه المترفع. واستمر النهج بعد ذلك في عهد الرئيس شارل حلو الذي أصدر قانونا ً للتطهير طاول عددا ً غير قليل من الموظفين الكبار.
لكن مقولة الإصلاح الإداري التي رافقت مختلف الحقب السياسية لم تكن هي الأساس. إذ هنالك مؤسسات تحاسب إرتكابات الموظفين ومخالفات القضاة في الحالات الطبيعية. فالمشكلة كانت ولا تزال في مفهوم العمل السياسي الذي تفاقم في السنوات الأخيرة وبخاصة في زمن الوصاية التي خربت كل القيم المعمول بها في لبنان، فخربت عمل المؤسسات، ولم تتوقف عند أي إعتبار معنوي أو أخلاقي.
وحتى الآن لم ينهض لبنان من تلك الحالة التي بلغ فيها ضعف الدولة ومؤسساتها مستويات غير مسبوقة، في ظل أسر رئاسة الجمهورية وعمل الدستور ولكن أيضا ً في ظل إستباحة الحدود والمرافئ وإنتشار السلاح وقيام دولة أخرى مرادفة، وضعف القوى الرادعة التي وصلت الإتهامات إليها. هذا كله كثير. كثير على المواطن.
كثير على المواطن هذا التلاشي. كثير عليه عدم التضامن في سبيل إنقاذ لبنان. فأصبح إنعقاد مجلس الوزراء حدثا ً يتهافت الإعلام لتغطيته. وأصبحت نقاشات هذا المجلس منشورة في الإعلام دونما شعور بالمصلحة العامة. وباتت المشادات مادة للإثارة، بدل أن تبقى طي الكتمان كما في أي حكم يحترم نفسه ومسؤوليته.
كثير على المواطن رؤية مواكب الحكام والمسؤولين والموظفين الأمنيين، التي تكلف الدولة مبالغ طائلة، والتي ليست كلها للحماية.
فهذا كله تخلف. تخلف فاضح. نقارن أنفسنا بسويسرا ورئيس سويسرا يقف بالصف لدخول المسرح. لم ينقص سوى هذا الشغور حتى يصاب البعض بجنون العظمة ويعتبروا أنفسهم رؤساء.
هذا كثير، والمطلوب كثير. وطريق إعادة الإعتبار الى السياسة وإعادة القيم إليها يبدو طويلا ً. لأن المطلوب هو إعادة تحديد معنى العمل السياسي في لبنان، ليس من خلال النصوص وهي موجودة، وبخاصة قانون “الإثراء غير المشروع” الصادر عام 1953 والتشريعات اللاحقة والذي لا يزال يعتبر من أحدث قوانين المحاسبة، بل من خلال الممارسة والإنضباط وإعطاء القدوة.
فالسياسي الغربي، في فرنسا وانكلترا والمانيا والولايات المتحدة، يعرف أنه لن يكون بإمكانه حين يصل الى أحد مراكز السلطة، أن يستغل مركزه للإفادة المادية وأن يحقـّق المنافع لنفسه، لأن هنالك من سيحاسب ليس فقط في وسائل الإعلام، بل في القضاء والمحاكم. وهي نصوص تتطوّر بإستمرار والى الحدّ الذي يقتنع فيه المسؤول بأن مهمته الوحيدة إذا أراد السلطة، هي الخدمة العامة، والنجاح فيها. ولا شيء غير ذلك.
فمقياس الديموقراطية في دولة القانون هو هنا: أن تكون لدى هذه الدولة القدرة على محاسبة المسؤولين فيها لأن تحديد دولة القانون هو إنصياع الدولة للقانون. وهو الحد الفاصل بين العالم المتقدم والعالم المتخلف. لأن النزعة الى السلطة والمال هي من أقدم النزعات البشرية، وموجودة لدى الكثيرين وفي كل المجتمعات وأنظمة الحكم.
البرازيل خربت من الفساد وهي التي كانت من الدول الطالعة. وكذلك حال بعض جيرانها مثل الأرجنتين حيث يتوالى الرؤساء لمحاسبة من سبقهم، وكذلك المكسيك حيث يقف القانون عاجزا ً أمام إختلاط العنف بالخروج على سلطة الدولة في بعض المقاطعات، والعديد من الدول، شرقا ً وغربا ً، حيث الفساد يتدرج من أعلى الهرم في السلطة.
حتى الآن، لا يزال لبنان العريق في الحريات والممارسة الدستورية، يقف أمام الحاجز الذي يفصله عن المحاسبة، تلك هي المشكلة. حريات واسعة في الكلام والفضح والإتهام والإثارة، لكن باب المحاسبة لم يفتح بعد كما ينبغي.
يبقى بالطبع لبنان الآخر. لبنان الأكبر من السياسة، لبنان ذاك الذي نلجأ إليه في الشدائد، وما أكثرها اليوم خارجيا ً وداخليا ً. وهو الأكبر من الفاسدين بالطبع، لأن الصفحات الناصعة تكتب بالأيدي الناصعة ولبنان لم يبخل بها.