Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر May 5, 2016
A A A
احذروا نشرات الأخبار
الكاتب: عامر راشد - سبوتنيك

مشاهد الدم المرعبة، التي تطل علينا في شكل يومي، على الشاشات العربية جعلت المشاهدين يهربون من القنوات التلفزيونية الإخبارية، بعد أن تربعت لعقدين من الزمن على رأس القنوات الأكثر متابعة من قبل الجمهور.

أذكر في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كنا نتجمع عند أحد الأصدقاء لنشاهد النشرة المسائية لقناة الجزيرة الفضائية الإخبارية القطرية، وفي الأحداث الساخنة يتسع صدر صديقنا لاستقبالنا من أجل مشاهدة تغطية مباشرة هنا أو هناك، فقد كان حينذاك ثمن جهاز استقبال القنوات الفضائية باهظ الثمن في سوريا، ولم يكن مسموحاً به قانونياً، لكن بعد سنوات قليلة أصبح ثمنه مقبولاً ومقدوراً عليه، فبات يحتل مكانه في صدر صالون البيت، كما يقال في المثل العربي كناية عن احترام الضيف العزيز.

لم يكن مألوفاً  لدى المشاهد العربي هذا الدفق الهائل من المعلومات، ولم يكن معتاداً على السياسة التحريرية الجديدة  التي لا تتهيب من توجيه نقد لاذع للحكومات العربية، وفتح ملفات ظلت محظورة لعقود طويلة هيمن فيها التلفزيون الرسمي، إلا أنه في أقل من عقد من الزمن صار الفضاء العربي مزدحماً بعشرات القنوات الفضائية المتخصصة بالأخبار، ناهيك عن مئات القنوات المنوعة والدينية والترفيهية والرياضية (أكثر من 1300 قناة)، غير أنها لم تستطع أن تصل إلى مستوى جماهيرية قناة الجزيرة الإخبارية القطرية التي حافظت على المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد المشاهدين، حيث بلغ معدل عدد مشاهديها حوالي 23 مليون مشاهد يومياً، أو مرتبة القنوات الأربع التي تليها عربياً في الترتيب، قناة “العربية” السعودية، “بي بي سي” العربية، “فرنسا 24″، “سكاي نيوز” العربية، غير أنه سريعاً ما اختلط الحابل بالنابل، ولم تعد قناة الجزيرة خارج دائرة الاختلاف عليها.

بات المشاهد أمام خبر واحد يتم تداوله من زوايا متناقضة، من قبل القنوات الإخبارية المختلفة، فالعديد من القنوات لا يتورع عن قلب مضمون خبر ما رأساً على عقب، دون ضوابط مهنية أو أخلاقية، باتباع سياسة تحريرية تهدف إلى خدمة أجندات بعينها، إلى أن أمست تلك السياسات التحريرية محرضاً للمشاهدين على هجرة القنوات الإخبارية، بعد أن نال منهم التعب في حلبة المبارزات الإعلامية.

زاد في الطين بلة تلاطم المعلومات على صفحات التواصل الاجتماعي، فغالبية من ينشرون ويتناقلون الأخبار يتعاملون بانتقائية لخدمة وجهة نظرهم، وفي سبيل ذلك لا تراعى حرمات أو مشاعر، كما أن اللغة المستخدمة لا تحافظ دائماً على الحد الأدنى من أخلاق التخاطب، في ساحة تجتمع فيها المتناقضات، إلى درجة بات الكثيرون غير قادرين على متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما أولئك الذين يؤمنون بمنطق الحوار وليس “عنزة ولو طارت”.

ظاهرة بدأت تتسع بسرعة خلال العامين الأخيرين، تتمثل في أن الكثيرين بدؤوا يعطون لأنفسهم استراحة من متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، وأنا على الصعيد الشخصي مررت بمثل هكذا تجربة، استمرت ما يقارب ستة أشهر، واتخذت قراري حينها عندما شعرت بأنني لم أعد قادراً على تحمل رؤية المزيد من الدماء والاستماع للمهاترات. ونادراً ما يمر يوم لا ينشر فيه أحد الأصدقاء أو المعارف اعتذاراً على صفحته على الفيسبوك وتويتر، يعلم فيه أصدقاءه بأنه يريد أن يرتاح من عناء متابعة الفيسبوك وتويتر قليلاً، وكأن تركه صار بمثابة فسحة استجمام ونقاهة نفسية.

ظاهرة أخرى مرادفة لظاهرة الابتعاد مؤقتاً عن الفيسبوك وتويتر تتجسد في عدم متابعة نشرات الأخبار في السابق، وفي أقصى الحالات الاكتفاء لمرة واحدة في اليوم بالاستماع لنشرة موجزة، أو قراءة شريط الأخبار في أسفل الشاشة. ففي جلسة مصارحة اكتشفت أن معظم أصدقائي لم يعودوا يتابعون نشرات الأخبار بانتظام، والبعض منهم قال بأنه يتابعها نادراً، لأنه لم يعد قادراً على الاحتمال أكثر، لكني شخصياً بحكم مهنتي مضطر لمتابعة الأخبار يومياً، الأمر الذي يثير الشفقة، على حد وصف أحد الأصدقاء، الذي أردف ناصحاً وهو يوجه كلامه لي وللحاضرين: احذروا نشرات الأخبار.

بمراجعة سريعة؛ يبدو أن كثيرين، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، بدؤوا يتعاملون بحذر مع نشرات الأخبار، ويحاولون الإقلاع عن الإدمان على القنوات الفضائية الإخبارية وبرامجها في الفترة المسائية، والابتعاد في آن عن متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، للهروب من مشاهد الدم المرعبة على القنوات الإخبارية وساحات المبارزة على الفيسبوك وتويتر، وإذا استمر الحال على ما هو عليه ستفقد القنوات الإخبارية العربية ومواقع التواصل الاجتماعي العدد الأكبر ممن مازالوا يتابعونها.