Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر December 16, 2016
A A A
نظرة اليمين المتطرف الى علاقة المسيحيين والمسلمين في الشرق
الكاتب: جورج عبيد - الديار

التقت مجموعة صغيرة من مسيحيي المشرق العربيّ مع شخصيتين أوروبيتين تعملان في منظمة الدعم الدوليّ المنتشرة في أوروبا سيدة من بلجيكا هي صوفيا كوبي، وأستاذ بلجيكي هو أندرياس توناسر ينتميان بالعمق السياسيّ والإيديولوجيّ إلى اليمين المتطرّف في أوروبا. من تلك الينابيع حضرا إلى لبنان، لاستكشاف ما آلت إليه أوضاع المسيحيين في المشرق العربيّ، وعلاقتهم المسيحية بالإسلام من جوانبها كافّة. وحبيب أفرام رئيس الرابطة السريانيّة هو من دعا ونظّم عشاء العمل معهما، في حضور هذه المجموعة للتمكن من التفاعل الأخّاذ والتواصل المجدي والإضاءة الصافية على عناوين اللقاء بالمعاني والأهداف مرورًا بفحص التطورات وبخاصّة في حقبة ما بعد الربيع العربيّ. وليس خافيًا على أحد، بأنّ حبيب أفرام متحسّس بالعمق لهذه المسائل ومتلمّس لآفاقها، وبخاصّة أمام ما حدث ويحدث للمسيحيين في كلّ أزمنتهم، وقد حاضر وكتب وألّف عن هذا الموضوع، ودافع دفاعًا مستميتًا بوجه من يقلقونهم من لبنان إلى سوريا والعراق إلى مصر وإلى سائر المشرق.

يسوغ القول من باب النقاش المبدى بأن عبّر عن توق واضح عند صوفيا واندرياس لاستنباط أزمة الوجود المسيحيّ بل أزمة المسيحيين العرب، وكانت مجموعة عناوين تمّ الحديث حولها، منها هل هم عدد أو نوع، ما علاقة الإسلام في تلك الأزمة وهل له الدور في عملية تغريبهم أي سلخهم؟ يزيّن لكثيرين حضروا عشاء العمل هذا، بأن العقل الأوروبيّ بصورة عامّة ليس على معرفة دقيقة بالإسلام كدين حضاريّ، وهو مع انبثاث التنظيمات التكفيريّة في العالم يعيش محنة العقل فيه، إلاّ إذا شاء هذا العقل الإيغال في التبوييبات السياسيّة والأمنية للإسلام وعلاقته بالغرب الأوروبيّ سيّما أنّ حبرًا كثيرًا ومدرارًا سال وكتبًا عديدة ألفّت شرحت عناصر العلاقة بين الإسلام وأوروبا والغرب، وكتبت حول علاقة الاستغراب بالشرق بكل ما يحمله الاستشراق من إشكاليّات والتباسات ظهرت على مراحل عديدة، من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الراحلان محمد أركون الجزائريّ الأصل والذي عاش سنوات طويلة في باريس ودرّس في جامعة السوربون، وإدوارد سعيد الفلسطينيّ المنتمي إلى طائفة الكويكرز وهي فرع من الكنيسة الإنجيليّة والمحاضر في جامعات أميركا وهو أوّل من دعا العرب للدخول في الفكر الغربيّ وأظهر معنى الاستشراق عند الغرب بإطاره الملتبس، وها هو راقد في مدافن الكويكرز في برمانا.

التلاقي بين العقل الأوروبي والمتطرّف، بواقعه المسيحانيّ، والعقل المشرقيّ المتنوّع يجوهره الطبيعيّ، هامّ وطبيعيّ في مرحلة التغييرات الجذريّة في منطقة قد غدت بتفاصيلها قلب العالم، لجلاء الرؤية حول الإسلام والعلاقة المسيحيّة-الإسلاميّة. ثمّة ظنّ ساد عند هؤلاء وهو ظنّ بحدّه الأدنى استكشافيّ بمندرجاته الأكاديميّة بأن الشرق يعيش أزمة هائلة في علاقة المسيحيين والمسلمين وفي علاقة المسيحيّة بالإسلام. واليمين ظاهرًا وباطنًا مأخوذ إلى نوعيّة ملتبسة ودامجة بين الإسلام كدين وبين السلوكيات العنيفة تجاه الآخرين، وظهر المشهد ربما في مخيلاتهم أنّ هذا التنظيم عينًا يمثّل الإسلام. والواقع ليس هكذا، وفي مسرى الإيضاح والاستيضاح قرأ هؤلاء مع محاوريهم بأن التنظيمات التكفيريّة العامدة الى القتل والتهجير لا تمثّل الإسلام ولا تجيء منه، بل هي حركة منفصلة في المطلق عن الدائرة الكونيّة، ومستقلّة عن نظام الكون بتشريعاتها وتشديدها على تجسيد ذاتها كإمارة حاكمة، ومستولدة من أجهزة استخبارية أميركيّة وإسرائيلية زرعتها لتجسيد مصالحها وخلق انماط متوترة وممزِّقة للمشرق. وفي المعنى العقيديّ تلك التنظيمات تنتمي إلى سيد قطب في الأصل ولكن سيد قطب لا يمثّل الإسلام. وقد تم الإيضاح لهم أنّ الخطر الداهم على أوروبا بسبب الأحداث السوريّة، سببه ابتكار الاستخبارات الأميركية لهؤلاء واحتضان الدول الأوروبية لهم من دون احتساب لنوعيّة هذا الخطر بالأنظومة التي تمثلها تلك المنظمات. وقيل لهما بأنّه لو لم تدخل روسيا سوريا، ولو لم يقاتل حزب الله على الأرض لكانت المسيحية المشرقيّة قد أبيدت بصورة تلقائيّة. فما حصل لمسيحيي العراق عملية إبادة وقد كاد ان يطال مسيحيي سوريا لولا صمودهم الجبار في صيدنايا ومعلولا ووادي النصارى وكسب ونهر الخابور، وقد تمّ الإيضاح لهذا الوفد أن حزب الله قاتل ببسالة للحفاظ على الحضور المسيحيّ والأديرة والكنائس وهذا واضح بالوثائق والصور للعيان. وتمّت مناقشة معاني هذا الأمر للتأكيد بأنّ المسيحيين في الشرق العربيّ مستهدفون فقط من هذا التنظيم المتوحّش وليس من الحزب، وحزب الله يعرف أنّ المسيحيين إذا ما نزحوا عن المشرق العربيّ فإن أرضه تفقد ملحها وفضاءه نوره، وعالمه قيمه، والحضور بهاءه، وبالتالي فإن استمرار الوجود المسيحيّ في المشرق العربيّ ضرورة استراتيجيّة للإسلام بمذاهبه كافّة، وضرورة استراتيجيّة أيضًا لأوروبا وروسيا معًا.

وبسؤال استيضاحيّ عن دور روسيا، تمت الإجابة بأنّ الروس بدورهم أعادوا التوازن المفقود إلى العالم من المشرق العربيّ عينًا. التوازن في المشرق وأوروبا يحتاج إلى روسيا حتّى يتحرّر العالم من الآحادية القطبيّة، وما حدث في سوريا كان إنجازًا كبيرًا، سيترجم حتمًا بتسوية سياسيّة تعيد الاعتبار للدور المسيحيّ في تثمير المشاركة وتعميقها وتجذيرها. وأكد من تداخل على هذه المائدة أن البداية ظهرت في لبنان مع انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة كممثّل عن الوجدان المسيحيّ بغالبيته المطلقة، وانتخابه في حقيقة الأمر بنتائجه غير محصور في لبنان بقدر ما هو مطلّ على تأمين رعاية واضحة لمسيحيي المشرق العربيّ، مما سيسمح بتعزيز أدوارهم في المشاركة بالحكم داخل أقطارهم سواء في سوريا والعراق. الإسلام السياسيّ هو من يأنى الوجود المسيحيّ، امّا الإسلام العادل فهو مرحب بمشاركتهم بل بـ «الشركة» معهم في تكوين الأنظمة السياسيّة، وهنا يسوغ التمييز والتفريق بين حالتين واضحتين كلّفت معارك هائلة في لبنان على وجه التحديد. حالة التكفير الرافض لميدأ قبول الاخر، ومبدأ الإسلام القرآنيّ القادر على التجانس مع المسيحيين وإيجاد تأليف حسن لمواطنة تعبّر عن ذاتها وعن الهوية الوطنيّة الواحدة. وذكّر بعضهم الأوروبيَين بوثيقة كانت قد صدرت عن المؤتمر الجامع لمسيحيي المشرق، وفيها تمّت الدعوة للمشاركة بل لـ «الشركة» بين المسيحيين والمسلمين.

وأوضح أحد المشاركين للشخصيتين الأوروبيتين أنموذجين متلاقيين في العمق والجذر، يجدر بالجميع التوقف عندهما في العلاقة ما بين المسيحيين والمسلمين. أنموذج سطع في مصر ترجمه شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيّب حين قال أن الاعتداء على الكنيسة القبطية وعلى المسيحيين الأقباط في مصر هو اعتداء على المسلمين أنفسهم والإسلام عينه ولا يجب السماح به. وقد لاقى موقفه ارتياحًا ليس عند المسيحيين الأقباط بل عند المسيحيين المشارقة على مختلف مذاهبهم، وعند المسلمين على مختلف مذاهبهم. وأنموذج آخر سطع في فلسطين مثّله المسيحيون المقدسيون واجهوا فيه السلطات الإسرائيليّة التي أصدرت قرارًا بمنع الآذان في الجوامع وعلى المآذن فما كان من المسيحيين كهنة ونخب وأناس بسطاء سوى النزول إلى الشوارع خلف المطران العروبيّ والمناضل عطالله حنّا ودعوا المسلمين إلى اعتماد الكنائس لإطلاق الآذان مع قرع الأجراس ووجود الصليب فوق القبب. أنموذجان راقيان وحضاريان كهذا كافيان لإثبات بأن المسيحيين والمسلمين يحيون معًا ويجيئون من ينابيع مشرقية واحدة وإن اختلفت بعض عناوينها في التفسيرات اللاهوتيّة والفقهيّة. والقضية بان البلايا التكفيريّة  كلّها طالعة من إسرائيل المتبنية تبنيًّا كيانيًّا لها. وفسّر هذا المشارك بأنّ نظرية صموييل هانتنغتون في أميركا تأسيسيّة بالمعنى الإيديولوجيّ لمبدأ الفوضى الخلاّقة في الشرق الأوسط، وقد حاولت الإدارة الأميركية خلال عهد جورج دبليو بوش إلى تكريسه. وقد كان مبدأً تخريبيًّا في قلب أوروبا الشرقية بين الكروات والصرب من جهة وبين الصرب والبوسنيين من جهة أخرى.

وانبرى بعضهم الآخر بشرح واضح بأن المسيحيين ليسوا عددًا ولا يجب وصفهم بالأقلية وكأنهم قبيلة متجهة نحو الانقراض، بل هم نوع مؤسس للنهضة العربيّة بكلّ معاييرها الأدبية والعلميّة. ففي لبنان الجامعات والمدارس والمستشفيات تعود إليهم، الأديار والرهبانيّات تملك ثلاثة أرباع الأراضي، رئيس الجمهوريّة اللبنانية هو المسيحيّ الوحيد في العالم العربيّ، وهذا الأمر يجب أخذه بعين الاعتبار. المسألة لا تدلّ على واقع كارثيّ بالمطلق، المسألة ان المسيحيين يتصرفون كأقليّة شاكية وخاشية، ولا يتصرّفون على أهم نوعيّة قادرة على التفاوض لتعزيز شروط أفضل للمشاركة السياسيّة ضمن الأنظمة التي يعيشون فيها وهم بدورهم وفي الأصل مساهمون بنشوئها.

انتهى اللقاء بردّ واضح من صوفيا وأندرياس أظهرا فيه تفهمًا للخصوصيّة المشرقيّة المتمثلة بالعلاقة المسيحيّة-الإسلاميّة، وإدراكًا بأن تنظيم داعش لا يمثل الإسلام، وتلمسًا بأنّ أيّ تطرّف لا يمثل القيم الروحية بحقيقتها وواقعيتها. كان الهمّ عندهما أن يقولا قولا جديدًا لأوروبا. وغالب الظنّ أن الرسالة الواضحة بأنّ أوروبا ستفهم بأن الخطأ الاستراتيجيّ عائد إلى تبني الدول والحكومات الأوروبية لهؤلاء، ولن تستقيم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وبين أوروبا والإسلام إلاّ باقتلاع هذا التنظيم من جذوره، وروسيا تمارس عملية الاقتلاع بعمق كبير لأجل مشرق متوازن ولأجل علاقة روسيّة -غربيّة متوازنة بدورها.

في الختام، عوّل المطران جورج خضر في كتابه لو حكيت مسرى الطفولة أهمية كبرى على المسيحيّة المشرقيّة في مخاطبة أوروبا، لعلّ المخاطبة في ظلّ تلك الظروف بين العقليين قادرة على تأمين نهضة جديدة لقيم يجب أن نستحقها في صناعة عالم جديد وكما قال أندرياس يتجدّد بقيم التسامح والمحبة والعدل، وبعالم لا يموت فيه التاريخ ولا يتمزقّ فيه الله بصراع الخضارات والأديان، بل يخاطب الله نفسه في المسيحية والإسلام، بكلمة تجسد أو كلمات منزلة، اللقاء هنا وليس في أنظمة مغلقة، ومن رحمه يولد الحق والخير والسلام.