Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر December 23, 2025
A A A
تراجع هيبة الدول العالمية والإقليمية الكبرى
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

– شهدت السنوات القليلة الماضية سلسلة من الأحداث والحروب لا يمكن تجاهل تداعياتها على نمط العلاقات الدولية، ويتوقع الكثير من الخبراء أن تترتب عليها زيادة وزن وتأثير القوى المحلية ووزنها الموضوعي في ساحاتها المباشرة في رسم مستقبل الكثير من الصراعات الكبرى أو الأقل أهمية، بحيث كسرت للمرة الأولى معادلة خوض حرب تقليدية مع دولة نووية كما حدث في الحرب الأوكرانية الروسية، وبخلاف التوقعات والمخاوف لم يكن للوزن النووي لروسيا أي تأثير على مسارها من زاوية الردع، فقامت أوكرانيا باستهداف العمق الروسي مراراً وتجاوزت الكثير من الخطوط الحمراء، وكان على روسيا أن تقوم بتحصين جبهتها الداخلية والعودة إلى قواعد الردع التقليدي غير النووي لمحاولة رسم خطوط حمراء جديدة، وفي الحرب التقليدية وبالرغم من الدعم الأميركي والأوروبي المفتوح، كان العامل الحاسم في رسم سياق الحرب واختلالها لصالح روسيا، العامل الداخلي الروسي وفي مقابله الداخل الأوكراني لجهة الاستعداد لتحمل تبعات الحرب، كما كان العامل الداخلي في أميركا والدول الأوروبية هو ما يرسم خطوطاً حمراء أمام التفكير بالتدخل المباشر في الحرب، التي تحولت إلى اختبار اجتماعي داخلي في روسيا وأوكرانيا لمكانة النظام السياسي ودرجة تجسيده لتطلعات شعبه بامتلاك رؤية ناجحة وحسابات دقيقة لخوض القضايا المصيرية.

– خلال سنتين ماضيتين جاءت أميركا إلى المنطقة بحرب وقفت فيها بكل إمكاناتها إلى جانب “إسرائيل”، وكانت حاملات الطائرات والسفن والغواصات الأميركية طرفاً مباشراً في الحرب وأطلقت مئات الصواريخ على جبهات القتال ومئات أخرى لإسقاط الصواريخ والطائرات المسيرة التي استهدفت “إسرائيل” وأهدافاً إسرائيلية، لكن الحرب لم تنجح في تحقيق الردع المتوخى والمفترض، رغم كل ما لدى أميركا من قدرات نارية ونووية وتفوق تقني واستخباري، وتكفي القراءة الهادئة للمنازلة الأميركية اليمنية في البحر الأحمر التي كانت أهداف خوضها واضحة في الخطاب الأميركي، مع إدارة الرئيس جو بايدن ومن بعده مع الرئيس دونالد ترامب، وفي الخلاصة واصل اليمن المواقف الرافضة ذاتها للطلبات الأميركية وواصل المشاركة بنجاح في حرب إسناد غزة بمنع السفن المتجهة إلى موانئ “إسرائيل” عبر البحر الأحمر، مستهدفاً الحاملات والسفن الأميركية التي جاءت لمنعه، واضطرت أميركا لمغادرة الحرب بوقف إطلاق نار لم يحقق لها شيئاً من أهدافها، طلباً لتفادي المخاطرة بخسائر يصعب تحملها، والمعادلة كانت تقوم على ثنائية القدرة على تحمل كلفة الخيارات، من جهة درجة تماسك المجتمع اليمني وتمسكه بخيار إسناد غزة واستعداده لتحمل بذل الدماء من أجل غزة وفلسطين، وبالمقابل درجة تماسك المجتمع الأميركي وتمسكه بخيار مساندة “إسرائيل” ودرجة استعداده لبذل الدماء وتقديم أبنائه لحماية “إسرائيل”.

– خاضت “إسرائيل” حروباً متعددة مع غزة ولبنان واليمن وإيران، ورغم ما حصدته من إبهار بعملياتها التكنولوجية والاستخبارية، وحجم الخسائر التي ألحقتها بالخصوم، ورغم المخاطرة بخوض أبشع جرائم حروب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، والوظيفة الردعية المرتجاة لحرب الإبادة لفرض السياسات، فإن الحصيلة كانت فشل “إسرائيل” بتحقيق الأهداف عسكرياً، فلم تنجح بالقضاء على المقاومة في غزة وجنوب لبنان، وفشلت أكثر مع اليمن وإيران، والفشل الأهم كان سقوط حرب الإبادة كوسيلة ردع بديلة بعد فشل الردع النووي، الذي لوّح به كثير من قادتها، وإذا لم تفقد “إسرائيل” القدرة على التلويح بالحرب، إلا أن القيمة الاستراتيجية لها والنظر إلى حروبها بعيون حليفتها الأهم أميركا قيّدت هذه القدرة، بحجم ما خلقت من وضع أميركي داخلي ضاغط للتوقف عن دعمها، بل إن تراجع مكانة “إسرائيل” بات واضحاً في كيفية التعامل الأميركي معها من جهة، ومع حلفاء أميركا الآخرين في المنطقة الذين ارتفعت مكانتهم في الحسابات الأميركية، كشركاء لا غنى عنهم في ضمان المصالح، التي لم يعد الردع الإسرائيلي كافياً لضمان تحقيقها، كما يقول الاهتمام الأميركي بالسعودية وتركيا ومصر، وما تقوله الخلافات الأميركية الإسرائيلية حول القوة الدولية في غزة.

– تعرضت غزة لواحدة من الحروب التي لن ينساها تاريخ البشرية بحجم ما شهدته من فظائع وحجم ما كتبه الشعب الفلسطيني ومقاومته من بطولات، وفي الحصيلة رسم وسوف يرسم مشهد غزة النهائي، التوازن بين حجم تماسك البيئة الداعمة لقوى المقاومة داخل الشعب الفلسطيني ودرجة تمسكها بخيار المقاومة واستعدادها لبذل التضحيات والدماء لأجله، وبالمقابل درجة تماسك المجتمع الإسرائيلي وراء خيار الحرب، وخصوصاً الفئة الداعية للحرب فيه ودرجة تمسكها بخيار الحرب وتحمل التبعات والتضحيات وتقديم الدماء لأجله.
– في المشهد اللبناني وما يدور حول المقاومة وسلاحها، ورغم محاولة استحضار القوة الأميركية أو الأوروبية أو العربية، وخصوصاً الإسرائيلية، لمحاصرة المقاومة، والسعي لانتزاع التنازلات منها، فإن العامل الحاسم سوف يبقى، وهو الآن، نتيجة التوازن الداخلي بين البيئات الشعبية المؤيدة للمقاومة ودرجة تماسكها حولها ودرجة تمسكها بخيارات والاستعداد لتحمل تبعات ذلك، وبالمقابل درجة تماسك البيئات المؤيدة لخصوم المقاومة حول قياداتها، ودرجة تمسكها بالخيارات المعادية للمقاومة والاستعداد لتحمل التضحيات لأجل هذه السياسات، وكل ما يضيفه الخارج يبنى على هذا التوازن وعليه فقط.

– في المشهد السوري، حيث تركيا لاعب إقليمي كبير و”إسرائيل” لاعب إقليمي كبير، يبدو كل شيء مرهوناً بخيارات السوريين، والتوازن بين البيئة المؤيدة للحكم السوري الجديد، والبيئات المؤيدة لخصومه المحليين خصوصاً في الشمال، حيث سبب الغضب التركي، وفي الجنوب حيث الرهان الإسرائيلي، وما يضيفه التركي والاسرائيلي يبنى على هذه المعطيات المحلية.

– العالم يتغير بعد اختبارات دموية مكلفة دفعتها البشرية في أماكن متعددة، ويبدو أن اختبارات أخرى لا تزال واردة، مثل حرب محتملة على فنزويلا، لكن مهابة الدول الكبرى عالمياً وإقليمياً سقطت، لصالح صعود أهمية ووزن العوامل المحلية ودرجة تماسكها وراء قياداتها وتمسكها بخيارات هذه القيادات واستعدادها لتحمل تبعات ودفع أثمان هذا التمسك.