Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر December 19, 2025
A A A
مصلحة الوطن فوق الخلافات والحرتقات
الكاتب: صلاح سلام

كتب صلاح سلام في “اللواء”

في لحظة سياسية يندر فيها التوافق، شكّل انعقاد الجلسة النيابية أمس خطوة وطنية بامتياز، لا لكونها انعقدت فحسب، بل لما أقرّته من قوانين واتفاقيات دولية حيوية تمسّ صميم المصلحة العامة. وفي مقدّم هذه القرارات، إقرار اتفاقية القرض مع البنك الدولي بقيمة ٢٥٠مليون دولار، المخصّصة لإنشاء صندوق إعادة الإعمار، وهو قرار طال انتظاره في بلد أنهكته الحروب المتكرّرة والأزمات المتناسلة.

 

غير أنّ أهمية هذا الإنجاز لا تكتمل من دون التوقّف عند كلفته الزمنية والسياسية. فلو أُقرَّ هذا الصندوق قبل اجتماعات الخريف للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لكان لبنان مرشّحاً للحصول على ما لا يقل عن ضعفي هذا المبلغ من صناديق عربية وأوروبية، كانت تشترط وجود إطار وطني منظّم وشفّاف لإدارة إعادة الإعمار. التأخير هنا لم يكن تقنياً، بل نتاج انقسامات سياسية وحسابات ضيّقة دفع البلد مجدداً ثمنها من فرص ضائعة وموارد مهدورة.

من هذه الزاوية، تكتسب الجلسة النيابية الأخيرة دلالة أعمق من مجرد إقرار قوانين. فهي تذكير صارخ بضرورة إبقاء القرارات الوطنية الكبرى فوق مستوى الخلافات السياسية، والحرتقات الحزبية، والنكايات الشخصية التي حوّلت المؤسسات الدستورية في مراحل كثيرة إلى ساحات تعطيل متبادل. فإعادة الإعمار ليست ملفاً حزبياً، ولا ورقة ضغط في بازار السياسة، بل شرطاً أساسياً لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية، ورافعة لا غنى عنها لأي مسار إصلاحي جدي.

 

لقد أثبتت التجارب القريبة أنّ المجتمع الدولي لا ينتظر لبنان، وأن المساعدات والاستثمارات تذهب حيث تتوافر الجدية والحوكمة والقدرة على اتخاذ القرار. وحين يعجز اللبنانيون عن الاتفاق على أبجديات إنقاذ بلدهم، فإنهم يبعثون برسائل سلبية إلى العالم، مفادها أن الانقسام أقوى من المصلحة الوطنية، وأن منطق التعطيل ما زال يحكم الحياة العامة.

من هنا، فإن المطلوب اليوم ليس الاكتفاء بتسجيل نقاط سياسية أو تبادل الاتهامات حول التأخير، بل البناء على ما تحقق، وتكريس نهج جديد يقوم على تحييد الملفات الإنقاذية عن الصراعات العبثية. فالبلد يقف عند مفترق طرق حاسم: إما البقاء في دوامة الأزمات المتلاحقة، أو سلوك طريق الإنعاش والإصلاح، بدءاً من إعادة الإعمار، مروراً بالإصلاحات المالية والإدارية، وصولاً إلى استعادة دور الدولة وهيبتها.

 

إن الجلسة النيابية يجب أن تُقرأ بعيداً عن حسابات الربح والخسارة في السياسة الضيقة، وإعتبارها نموذجاً لما يمكن تحقيقه عندما تتقدّم المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية الصغيرة. فلبنان لم يعد يحتمل ترف الانقسام، ولا يملك فائض الوقت لإضاعة المزيد من الفرص. المطلوب قرار وطني شجاع يضع إنقاذ الدولة فوق كل اعتبار، قبل أن يصبح الإعمار نفسه حلماً مؤجلاً إلى أجل غير مسمّى.