Beirut weather 11.88 ° C
تاريخ النشر December 16, 2025
A A A
عندما يعترف ترامب بالفشل الانتخابي قبل سنة
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”:

كي لا يُضيّع المرء عقله يجب أن يتوقف عن الإصغاء لما يسمعه على أغلب القنوات الفضائية العربية، ومنها أغلب القنوات اللبنانية، حيث العالم كله يعيش زمن الترامبية، حيث يتنافس المحللون على إطلاق التوصيفات على العهد الدولي الجديد، بعضهم يقول السلام بالقوة، وبعضهم يقول الذكاء الصناعيّ وبعضهم يقول الصفقة، والمضمون واحد هو الإشارة إلى أن أميركا في عهد الرئيس دونالد ترامب تكتب مستقبل البشرية، وأن الهيمنة الأميركية مطلقة على التكنولوجيا وعناصر القوة، وكل ما قد نراه من تراجعات أميركية، هي مجرد مساحات تتركها أميركا لخصومها للتنفس، وكل ما نراه من أدوار لهؤلاء الخصوم هي صفقات تمّت تحت الطاولة مع أميركا، وبناء على كل ذلك دعوة عاجلة للالتحاق الفوري بالقطار الترامبي، قطار الصفقة، واللجوء السريع للذكاء الصناعيّ لسؤاله عن نصائح التأقلم مع العهد الجديد.

كي لا تضيع عقولنا، علينا العودة إلى صاحب الأسطورة التي يفتتن بها الآخرون، دونالد ترامب نفسه، الذي يتحدّث عن عبقرية الفوز بإنهاء سبعة حروب لم يسمع عن أغلبها وبدوره في إنهائها أو ينشغل بها إلا قلة نادرة، بينما الحروب الحقيقية التي تورّط فيها ويسعى لإنهائها وخصوصاً حربي الطوفان وأوكرانيا، تنتقل فيهما خطط ترامب من تعثر إلى تعثر ولا يبدو رغم كثرة الكلام عن نوايا ومهل أن التوصل إلى حلول نهائية قريب، وأن سقف الإنجاز الممكن هو تضييق رقعة وتخفيض صوت الانفجار، وترامب نفسه الذي يعمّم عبر البيت الأبيض تقريراً عن عدد الكلمات التي تضمّنتها خطاباته ومؤتمراته الصحافية ويقارنها بعدد كلمات روايات هاري بوتر، ويحصي عدد مقابلاته ومؤتمراته الصحافية ووقفاته مع الصحافيين على درج الطائرة وفي حجرته داخلها، كان يتمنى لو استطاع تعميم نسبة انخفاض التضخم والبطالة، نسب تحسّن مستوى المعيشة والأجور، وارتفاع مستوى تسهيلات السكن والطبابة والتعليم ليقوم بتعميمها كتعبير عن إنجازاته.

ترامب المفعم بالثقة بقدراته الخرافيّة والمغرور بسطوته وهيبته كأدوات سحريّة للتفاوض والفوز، يصعب عليه إذا خسر أن يعترف بالخسارة مهما كانت بائنة، فكيف له أن يستبق موعد النزال بسنة ليبشّر بالخسارة؟ وهذا ما فعله في حوار مع صحيفة وول ستريت جورنال، قال فيه إنّه على الأرجح لن يكون هناك فوز جمهوري في الانتخابات النصفية لإعادة تكوين المجلس النيابي وتجديد انتخاب ثلث مجلس الشيوخ، معللاً ذلك بأن النجاحات الاقتصادية التي حققها لن تكون قد فعلت فعلها بعد وظهرت نتائجها قبل موعد الانتخابات، لكن ترامب يعلم أن السبب خلاف ذلك، وأن المناورات التي قام بها في الخارج والداخل كانت تهدف لكسر الحلقة المفرغة للدين الآخذ في التراكم وصولاً إلى تحوّل خدمة الدين إلى عبء يصعب تحمل تنامي حجمه، بعدما بلغت إدارة سلفه جو بايدن طريقاً مسدوداً في صياغة مخرج من هذه الحلقة المفرغة.

الدين الفيدرالي الإجمالي يبلغ نحو 34–35 تريليون دولار ما يعادل أكثر من 120% من الناتج المحلي الأميركي، والدين موزّع بين دين بيد الجمهور (سندات في الأسواق، صناديق، دول كانت الصين أكبر المساهمين قبل بدء انسحابها الهادئ) دين حكومي داخلي (الضمان الاجتماعي، وصناديق التقاعد)، هذه النسبة من الدين للناتج الإجمالي ليست خطرة فقط في ظل نمو اقتصادي قويّ أو فوائد منخفضة، وكلا الشرطين غير متوفرين بالكامل اليوم، حيث الفائدة السنوية على الدين تجاوزت 1 تريليون دولار بحيث أصبحت أكبر من موازنة الدفاع الأميركي وأكبر من الإنفاق على التعليم والبنية التحتية مجتمعين، أميركا لم تعد تعاني من حجم الدين فقط، بل من سعر الدين، خصوصاً بعدما ارتفع متوسط الفائدة على الإصدارات الجديدة إلى بين 4% و5% وهذا يرفع الكلفة تلقائيًا مع كل إعادة تمويل، والاختناق الذي يسبب الصداع لترامب يأتي من الاستحقاقات القريبة (2025–2027) نحو 7–9 تريليونات دولار، يجب إما سدادها أو إعادة تمويلها بفوائد أعلى، وهنا تكمن الفجوة الخطيرة بين السندات القديمة التي كانت بفوائد 1–2% والسندات الجديدة التي سوف تصدر بـ 4–5% ما يحدث صدمة مالية تراكمية على الخزينة الأميركية.

حاول ترامب جمع السياسة والاقتصاد لكسر الحلقة المفرغة، من السعي للسيطرة على الأصول والثروات الطبيعية، من كندا إلى بنما إلى غرينلاند، وصولاً إلى معادن أوكرانيا ونفط إيران وانتهاء بفنزويلا، لكن لا شيء تحقق بعد، وما قد يتحقق يحتاج إلى وقت كما قال، لكن الاستحقاق وراء الباب، حيث يدقّ بابه من الآن حتى نهاية أيار 2026 نحو 4 – 4.6 تريليون دولار من الديون المستحقة، وقد فشلت الرسوم الجمركيّة بتحقيق نسبة جدّية من هذه الاستحقاقات، وصار على ترامب العودة إلى استراتيجية إدارة بايدن، الاستسلام للحلقة المفرغة الجهنميّة، الدين يتعاظم، الفوائد تتراكم، لا قدرة على السيطرة على الدين ولا على العجز ولا على التضخم، وسداد الدين وفائدة الدين بالمزيد من الدين يعني ارتفاع سعر الفوائد، واستطراداً ارتفاع قيمة الدين وقيم الفائدة عليه، وما واجه بايدن من عقد يواجه ترامب، لا قدرة على مزيد من طباعة الدولار بسبب تراجع الطلب عليه كعملة تبادل تجاريّ بعد خروج الصين والهند وروسيا من سوق الدولار، ولا استجابة صينية كصاحب أكبر محفظة نقدية عائمة للاكتتاب في سوق السندات الأميركية، والبعض يربط تصعيد بحر الكاريبي بمحاولة لاجتذاب الصين سريعاً للتفاوض على مقايضة فنزويلا بالانخراط في سوق السندات.

المشكلة لم تكن يوماً في أميركا في فشل إصدارات السندات، والاكتتاب الوهميّ من السوق الذي تسيطر عليه الحكومة متاح، حيث تحتفظ صناديق النقد الأميركية بأكثر من 6 تريليونات دولار سيولة، لكن هذا الشراء الوهميّ بمثابة سحب سندات فشل بيعها من السوق، وليس تمويلاً، والحصيلة ليست نقدية هنا لأن المشكلة النقدية يتم حلها بأدوات تقنية متاحة، لكن المشكلة تقع دائماً في سوق الأسهم لا في سوق السندات حيث تبدأ، لأن سوق الأسهم تلتقط إشارة العجز والضعف والانهيار القادم بلا أفق، والحلقة المُفرغة الانفجارية، وتتفاعل سوق الأسهم سلباً ويقع الانفجار والانهيار كما حدث في كل مرّة، ولأن ترامب إبن السوق فهو يعرف ما ينتظره ويقتله الذعر مما هو قادم، ولذلك يتحدّث بلغة اليائس من الانتخابات النصفية ليس بسبب ما هو قائم، بل بسبب ما هو قادم.

الذين يُكثرون الحديث عن الدعوة للإسراع بركوب القطار، عليهم الانتباه أن قطع التذاكر بدأ في قطار العودة بسبب إقفال محطة الوصول، فأطعمهم الحج والناس راجعة!