Beirut weather 17.14 ° C
تاريخ النشر December 10, 2025
A A A
الاستراتيجية الأميركية الجديدة والاعتراف بنهاية عصر الهيمنة الأحادية
الكاتب: حسن حردان - البناء

هل يمكن القول انّ الاستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي تشكل انكفاء على الصعيد الدولي، لصالح التركيز على الداخل الأميركي ومحيط أميركا، بالتالي هل تعني اعترافاً بفشل الحروب الأميركية في تعويم الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة؟
هذه الأسئلة التي يمكن طرحها على ضوء قراءة ما تضمّنته استراتيجية الامن القومي الجديدة للولايات المتحدة…
إنّ جوهر التحوّل الذي تعكسه استراتيجية 2025 هو اعتراف ضمني، وصريح، في بعض النقاط، بنهاية عصر الهيمنة الأحادية الأميركية الذي بدأ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.
أولاً، اعتراف بعدم قدرة أميركا على الاستمرار في تحمّل تكلفة الهيمنة:
انّ عبء الدين العام، الذي تجاوز 37 تريليون دولار، وتكاليف الحروب المستمرة، باتت ثقيلة جداً ومرهِقة للولايات المتحدة، مما يجعل الحفاظ على شبكة الالتزامات العالمية التي تتطلبها الهيمنة، غير مستدام مالياً.. ولهذا فإنّ الاستراتيجية الجديدة إنما هي محاولة لترشيد الإنفاق الأمني بهدف تحرير الموارد التي يجب أن توجه لإصلاح الداخل وتعزيز الاقتصاد، الذي يُعتبر القوة الأساسية للولايات المتحدة. كما يعكس قرار الانكفاء الإرهاق الذي تعاني منه أميركا من محاولة إدارة كلّ الأزمات الدولية في وقت واحد، والاعتراف بأنّ هذا النهج قد أضعف الولايات المتحدة داخلياً في وجه المنافسين الدوليين، وخاصة الصين وروسيا.
ثانياً، الفشل في احتواء وتحجيم الدول الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً والمنافسة بقوة لأميركا:
تعكس الاستراتيجية الجديدة فهماً واقعياً لنتائج المواجهات الجيوسياسية الأخيرة:
1 ـ فشل مدوّ لسياسة احتواء روسيا عبر الحرب في أوكرانيا:
انّ الاستراتيجية الجديدة تقرّ بموازين القوى الدولية، حيث دعت الاستراتيجية بوضوح إلى تسوية سريعة للحرب الروسية الأوكرانية والضغط على حلفاء الناتو لزيادة إنفاقهم الدفاعي بشكل كبير. هذا التوجه يُنظر إليه على أنه اعتراف بأنّ استراتيجية “الاحتواء” الغربية الحالية لم تحقق هزيمة سريعة أو انهياراً لروسيا، بل أدّت إلى استنزاف مالي وسياسي كبير لأوروبا وأميركا، دون تحقيق الأهداف الكبرى للحرب.. والرسالة التي تبعث بها الاستراتيجية الجديدة تقول، انّ أميركا لن تستمرّ في تمويل حرب لم تحقق أهدافها الاستراتيجية بفعالية، ويجب على أوروبا تولي المسؤولية.
2 ـ الفشل في تحجيم القوة الصينية الصاعدة، بثبات، الى القمة:
على الرغم من أنّ الصين لا تزال المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، فإنّ الاستراتيجية الجديدة تحاول تجنّب المواجهة العسكرية المباشرة معها حول قضايا مثل تايوان، بالتأكيد على “الوضع القائم”، والتركيز على مواجهة المنافسة طويلة الأمد في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد.
والهدف الجديد لأميركا بات، بدلاً من محاولة “سحق” أو “إضعاف” الصين، أصبح هو منع الصين من تحقيق الهيمنة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عبر بناء شراكات انتقائية، وهي مهمة أقلّ تكلفة وأكثر واقعية من محاولة احتواء صعود الصين الاقتصادي والعسكري بشكل كامل.
3 ـ الإخفاق في تغيير نطام الحكم في ايران، وإضعاف دورها الإقليمي:
تنطلق الاستراتيجية الأميركية الجديدة من أنّ تغيير نظام الحكم في إيران ليس هدفاً واقعياً قابلاً للتحقيق عبر التدخل المباشر أو الحروب المكلفة. وبدلاً من ذلك، فإنها تركز على:
ـ ردع التهديدات المباشرة للمصالح الحيوية الأميركية (أمن “إسرائيل” وحرية الملاحة، من خلال دعم الشركاء الإقليميين لتولي مسؤولية أكبر في مواجهة نفوذ ايران الاقليمي، بدلاً من تدخل أميركي مباشر.. تبيّن فشله في تحقيق أهدافه عبر شنّ الحرب على اليمن ومن ثم على ايران.
فالاستراتيجية لا تنفي التحدي الذي تشكله إيران كقوة إقليمية مناهضة لسياسة الهيمنة الأميركية، لكنها تُخفض أولويتها مقارنةً بالتهديدات الداخلية والقوى العظمى الأخرى.
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول انّ استراتيجية 2025 تمثل تحوّلاً من القيادة الليبرالية العالمية إلى الواقعية القومية المنضبطة، وهي محاولة لتأمين القوة الأميركية الأساسية عبر ما يمكن تسميته “الاستراحة الاستراتيجية” من الالتزامات المفرطة والمكلفة التي ترتبها الهيمنة الأحادية، واستخدام القوة بشكل انتقائي للحفاظ على التفوق…