Beirut weather 17.03 ° C
تاريخ النشر December 10, 2025
A A A
تدخّل بري في قانون الانتخاب ليس تجاوزاً «للحدود» بل هو ممارسة لصلاحياته
الكاتب: حسين زلغوط

كتب حسين زلغوط في “اللواء”:

في خضمّ التجاذب السياسي الذي يعيشه لبنان مع كل استحقاق دستوري، عاد السجال حول قانون الانتخاب لناحية اقتراع المغتربين، ليحتلّ صدارة المشهد.
في هذا السياق، أتى موقف رئيس حزب» القوات اللبنانية «سمير جعجع خلال ترؤسه المؤتمر العام الأول للحزب والذي حمل عنوان «قوات نحو المستقبل» بحقّ رئيس مجلس النواب نبيه بري، واتهامه بتخطّي «كل الحدود» في مقاربته لهذا الملف، ليصبّ الزيت على نار الانقسام السياسي ويُعيد فتح النقاش حول الدور الذي يلعبه رئيس مجلس النواب في إدارة الاستحقاقات الكبرى.
غير أنّ القراءة الهادئة للمشهد، بعيداً عن الانفعال والتخوين السياسي المتبادل، تكشف أن كلام جعجع يتجاوز النقد السياسي المشروع ليقع في خانة التهويل والمزايدة، متجاهلًا التعقيدات البنيوية للعملية التشريعية وموقع رئاسة المجلس في إدارة التوازنات الوطنية.
أول ما يجب التوقف عنده أن الرئيس نبيه بري، بصفته رئيساً للسلطة التشريعية، يتحمّل مسؤولية إدارة النقاشات المرتبطة بالقوانين المفصلية، وعلى رأسها قانون الانتخاب، بما يضمن مشاركة الكتل كافة، وليس عبر فرض مقاربة أحادية أو خضوع لضغط فريق دون آخر. من هنا، فإن تدخّل بري في هذا الملف ليس تجاوزاً «للحدود» كما يقول جعجع، بل هو ممارسة صريحة لصلاحياته الدستورية ودوره التاريخي في الحفاظ على انتظام الحياة السياسية. فالبرلمان ليس مجرّد قاعة اقتراع، إنه مساحة توازن دقيق بين المكوّنات، وبري لطالما كان حارس هذا التوازن سواء اتفق معه البعض أم اختلفوا.
ثمّ إن الاتهام بأن الرئيس بري يعرقل أو يناور في قانون الانتخاب، يفتقد إلى العمق السياسي. فالمشكلة ليست في شخص رئيس المجلس، بل في الانقسام البنيوي بين القوى اللبنانية حول أي صيغة انتخابية تريد في ما يتعلق باقتراع المنتشرين.
وفي ظل هذه التناقضات، يصبح دور بري هو احتضان النقاشات ومحاولة تدوير الزوايا، لا تسييرها وفق مزاج أي جهة. ومَن يعرف طبيعة الرجل، يدرك أنّه من أكثر السياسيين اللبنانيين براعة في إدارة الملفات الحسّاسة، وأن تجاربه السابقة في هندسة التسويات ليست تفصيلاً عابرا في تاريخ البلاد.

الأهم من ذلك أن الاتهامات الانفعالية لا تنجح في إخفاء حقيقة أنّ موقف جعجع ليس نابعاً من حرص على تطوير النظام الانتخابي أو دفاعا عن المغتربين بقدر ما هو جزء من معركة النفوذ السياسي بين القوى المتصارعة. فالقوات اللبنانية تخوض منذ سنوات صراعا مفتوحا على تعزيز حضورها داخل الطائفة المسيحية وفي المشهد الوطني العام، وترى أن أي تعديل في قانون الانتخاب قد يؤثر على توازناتها وتحالفاتها. وبالتالي، فإن التصعيد الكلامي في وجه بري يهدف إلى تسجيل نقاط سياسية أكثر مما يهدف إلى حماية «قانون عادل» يضمن للمغتربين حقهم في المشاركة الفعالة في هذا الاستحقاق، كما يُروّج له ، ولو كان الهمّ فعلاً الوصول إلى قانون عصري ، لكان الحوار هو السبيل، لا الاتهامات المعلّبة.
لا يمكن أيضاً إغفال أن الرئيس بري لطالما كان من دعاة تطوير النظام الانتخابي بما يضمن صحة التمثيل، لكنه يدرك في الوقت نفسه أنّ أي تغيير جذري لا يمكن أن يحصل من دون توافق وطني واسع، وإلّا تحوّل القانون إلى أداة إضافية لتعميق الشرخ بين اللبنانيين. وفي بلد قائم على التوازنات الطائفية، يصبح الاحتكام إلى التوافق ليس ضعفاُ، بل ضرورة وطنية لمنع انزلاق البلاد إلى مواجهة سياسية مفتوحة.
وإذا كان البعض يرى في مقاربة بري نوعاً من الاحتكار السياسي، فإن الواقع يشير إلى العكس تماماً، فالرجل يُبقي أبواب المجلس مفتوحة أمام كل الطروحات، لكنه يرفض القفز فوق التعقيدات أو تمرير صيغة انتخابية مفصلة على قياس جهة بعينها. وهذا الموقف بحد ذاته يشكّل صمّام أمان في مرحلة دقيقة لم يعد فيها لبنان يحتمل مغامرات ولا قفزات في المجهول.
من هنا، يصبح الردّ على كلام جعجع واجباُ سياسياُ وأخلاقياُ. فالتصعيد غير المبرر لا يساهم سوى في تعميق الانقسام، بينما المطلوب من القيادات اللبنانية مقاربة ملف قانون الانتخاب بعقلانية ومسؤولية وطنية، وبقدر ما يُنتقد الرئيس بري، يبقى من القلائل الذين حجزوا لأنفسهم موقعاُ مركزياً في إدارة الأزمات الكبرى، وهو اليوم يقوم بدوره الطبيعي في محاولة جمع ما تفرّق في هذه البلاد.
إن لبنان يقف أمام استحقاق انتخابي مفصلي، وأي خطوة غير محسوبة قد تعيدنا إلى المربع الأول. لذا لا بد من الابتعاد عن المواقف الشعبوية والتحريضية، والاعتراف بأن الحوار وحده يفتح الطريق نحو قانون متوازن. أما وضع اللوم على الرئيس بري، هو محاولة لتبرئة الذات عبر تحميل الآخرين مسؤولية الانسداد السياسي.
لا شك أن الرئيس بري، بكل ما يملك من خبرة وحنكة، يقوم بدور الوسيط والحَكَم، لا اللاعب المنفرد. ومن أراد فعلياً إنقاذ الحياة الديمقراطية، فليتخلّ عن لغة الاتهامات، وليتوجّه نحو طاولة النقاش حيث تُبنى الحلول، لا على منصات التصعيد حيث تُفاقم الأزمات.