Beirut weather 23.16 ° C
تاريخ النشر December 5, 2025
A A A
برّي: لا أعترف إلّا بتفاوض تقنيّ… سوى ذلك “يصطفلو”
الكاتب: نقولا ناصيف - أساس ميديا

ثالثةُ الخطوات المتدرّجة ثابتة، هذا ما أكّدته الحقيقة لا الوهم والمناورة والتخويف. طرح رئيس الجمهوريّة أوّلاً “فكرة” التفاوض. في عيد الاستقلال طرح “الآليّة”. الأربعاء سمّى رئيس الوفد اللبنانيّ المفاوض المدنيّ، السياسيّ، غير التقنيّ، المُجرَّب. الثالثة الثابتة أنّ لبنان دخل أخيراً في مدار تفاوض سياسيّ مباشر مع إسرائيل يُفترض أن ينجح. لكنّه يحمل معه خطرَيْن كبيرَيْن من جرّاء وجود فريق رئيس يرفضه: إمّا مشكلة في الداخل أو مشكلة مع إسرائيل.

 

 

لم يعرف رئيس البرلمان نبيه برّي باسم رئيس الوفد اللبنانيّ المفاوض إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم”، السفير السابق سيمون كرم، إلّا من وسائل الإعلام. كان مستشار رئيس الجمهوريّة أندره رحّال أخطره أنّ مهمّة المفاوض السياسيّ المفترَض هي المتّفَق عليه مع رئيس الجمهوريّة جوزف عون في ما يتّصل بالتفاوض الجديد مع إسرائيل: وقف النار وتثبيته وإنهاء الانتهاكات الإسرائيليّة والانسحاب من الأراضي اللبنانيّة المحتلّة.

يعقّب رئيس المجلس: “المهمّ بالنسبة إليّ هو ماذا سيفعله (سيمون كرم)؟ هل هو وقف النار والانتهاكات والانسحاب؟ إذا كان كذلك فلا مشكلة. سوى ذلك لا أتعرّف إليه”.

لم يعرف رئيس البرلمان نبيه برّي باسم رئيس الوفد اللبنانيّ المفاوض إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم”، السفير السابق سيمون كرم، إلّا من وسائل الإعلام
قطبة ضائعة؟

يضيف باقتضاب: “عندي المهمّة أهمّ من الشخص والاسم. كنتُ أوّل مَن طرح التفاوض وإدخال مدنيّين إلى “الميكانيزم”، لكن في سياق مهمّة تقنيّة بحتة ليس أكثر. مهمّة المفاوض الجديد تقنيّة بحتة غير سياسيّة. لن أعترف إلّا بالمهمّة التقنيّة. المطلوب وقف النار وتثبيته وإعادة الأسرى ووقف الانتهاكات والخروقات الإسرائيليّة نهائيّاً والانسحاب من كلّ الأراضي اللبنانيّة المحتلّة وليس أيّ شيء آخر. سوى ذلك يصطفلو”.

أبسط ما تعنيه عبارة رئيس المجلس ضمناً أنّ ثمّة قطبة مخفيّة ضائعة. الانطباع الذي أشاعه صباح أمس بيان الرئاسة اللبنانيّة بتعيين سيمون كرم هو أنّه ناجم عن “تشاور وتنسيق” بين رئيسَيْ المجلس والحكومة. فيما يعكس ما أدلى به برّي مساءً أنّ ثمّة نصف حقيقة قيلت.

لسيمون كرم، السياسيّ بامتياز من خاله جان عزيز وخال خاله البطريرك مار بطرس بولس المعوشي ذي التجربة الدبلوماسيّة القصيرة، باعٌ طويل في المهمّة المعهودة إليه حاليّاً. فاوض إسرائيل فيما مضى على نحو غير مباشر بقرار من رئيس الجمهوريّة آنذاك إلياس الهراوي. يُدعى اليوم إلى تفاوض مماثل، لكن وجهاً لوجه مع الدولة العبريّة. كان محافظاً لزحلة عام 1991 عندما استدعاه الهراوي وسأله: “لديك رِكَبْ كي تفاوض الإسرائيليّين؟”. ردّ بالإيجاب فأناط به المهمّة، دون علم مجلس الوزراء ولا سوريا حتى، بالتنسيق مع السفير الأميركيّ ريان كروكر ردّاً على طرح أميركيّ على هامش اجتماعات مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الثاني 1991 بعنوان مغرٍ هو “جزّين أوّلاً”، توطئة لمراحل لاحقة.

اقترن العرض بآخر مربِك مستعصٍ هو اجتماع وزير الخارجيّة فارس بويز برئيس الحكومة الإسرائيليّ آنذاك إسحق شامير. رُفض العرض برفض الشقّ الثاني منه. بيد أنّه راق للهراوي فكلّف كرم التفاوض لاستعادة جزّين.

كلّفت إسرائيل قائد جيش لبنان الجنوبيّ أنطوان لحد بدلاً من شخصيّة إسرائيليّة التفاوض باسمها مع كرم. بسرّية وكتمان توالت ستّ جولات من الحوار في شتاء 1991 في منزل جان عزيز في جزّين، مرّة في الشهر. رام لحد من خلال التفاوض إيجاد موطئ قدم في المعادلة السياسيّة اللبنانيّة على هامش استعادة الدولة اللبنانيّة لجزّين.

بالتزامن كان رئيس الجمهوريّة والسفير الأميركيّ يطّلعان على دقائق ذاك التفاوض ويحظى بدعمهما إلى أن انتهى في أيّار 1992 باتّفاق مبدئيّ. ما إن اطّلعت عليه سوريا غضبت ومنعته، فعاد الجميع إلى نقطة الصفر على الرغم من موافقة الرئيس اللبنانيّ على البنود الثلاثة التي انطوى عليها الاتّفاق، وأحدها إحلال الجيش اللبنانيّ على التلال والجبال المحيطة بجزّين، وهذا ما لم تتقبّله دمشق.

لسيمون كرم، السياسيّ بامتياز من خاله جان عزيز وخال خاله البطريرك مار بطرس بولس المعوشي ذي التجربة الدبلوماسيّة القصيرة، باعٌ طويل في المهمّة المعهودة إليه حاليّاً
أميركا على خطّ التّعيين؟

أمام سيمون كرم مهمّة مماثلة في ظاهرها ومضمونها، مرتبطة بانسحاب إسرائيل من حزام جديد أنشأته في “حرب الإسناد” على غرار ذاك الذي أنشأته عام 1978. انتقل الآن دور سوريا إلى “الحزب” في الوقوف في طريق التفاوض. وعلى غرار الموقف المتفرّد للهراوي آنذاك، بات للرئيس جوزف عون موقف مماثل وإن بمظلّة موافقة رئيسَيْ البرلمان والحكومة. في الأصل هذا هو موقفه منذ انتخابه ما إن ورث تداعيات الحرب الإسرائيليّة على “الحزب” وانتهاءها بانكساره وإعادة احتلال إسرائيل أراضي لبنانيّة. لم يكن الرئيس وراء وقف النار في 27 تشرين الثاني 2024، ولا يسعه الزعم أنّه وراء إنهاء الحرب تلك. لكنّه أضحى معنيّاً بالتخلّص ممّا لم ينتهِ وقتذاك بالنار والحديد والخراب.

وفق مَن على اطّلاع وافٍ على موقفه ممّا يقتضي الذهاب إليه، يستند قرار عون التفاوض المباشر مع إسرائيل إلى معطيات كان جهر بها في أوساطه:

لا حلّ لإنهاء الاحتلال الإسرائيليّ إلّا بالتفاوض المباشر. يعزّز اعتقاده به ضغوط أميركيّة وسعوديّة للمضيّ في هذا الخيار على أنّه الحلّ الوحيد.
لأنّ “الحزب”، ومن خلاله لبنان من دون أن يكون وراء قرار الحرب، خسرا وأظهرا فشل هذا الخيار وسقوط توازن الردع، لا مناصّ بعد الآن من الجلوس إلى طاولة التفاوض مع إسرائيل لإخراج الاحتلال من الأراضي اللبنانيّة المحتلّة.
ثمّة اتّفاق بين عون وبرّي والرئيس نوّاف سلام على الذهاب إلى ضمّ مدنيّ إلى لجنة “الميكانيزم” بصفتها مرجعيّة تطبيق اتّفاق وقف النار للخوض في أوسع تفاصيل للتوصّل إلى استقرار نهائيّ على جانبَيْ الحدود. لبنان وإسرائيل كلاهما ليسا في وارد الذهاب الآن إلى اتّفاق سلام وتطبيع لسببين متعارضين: لأنّ لبنان لا يريد الانفراد به خارج توافق عربيّ عليه، ولأنّ إسرائيل غير مستعجلة السلام والتطبيع ما دامت تعتقد أنّ لبنان سيحضر إليها عاجلاً أم آجلاً صاغراً.
لم يُثِر رئيس الجمهوريّة موضوع تعيين سيمون كرم مع “الحزب”، بيد أنّه يتوقّع أن يرفض “الحزب” الخطوتين معاً: التفاوض المباشر والمفاوِض. ما يؤكّده عون أنّ برّي موافق على التفاوض المباشر.
ليست ردود الفعل الإيجابيّة على بيان الرئاسة اللبنانيّة الأربعاء سوى نجاح استثمار توقيت صدوره: غداة زيارة البابا ليون الرابع عشر للبنان، وساعات قليلة قبل التئام لجنة “الميكانيزم” بحضور الموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس المعزوّ إليها استعجال تسمية سيمون كرم.

أمّا القطبة المخفيّة في التعيين فمنسوبة إلى الأميركيّين الذين أبلغوا لبنان: تعيين سيمون كرم رئيساً للوفد المفاوض اللبنانيّ يضمن أن لا تقع الضربة العسكريّة القويّة.