Beirut weather 17.11 ° C
تاريخ النشر December 3, 2025
A A A
زيارة البابا التي لن تمنع الحرب
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

– في ظل قناعة اللبنانيين بأن زيارة قداسة البابا إلى لبنان لن تمنع الحرب على لبنان إذا كانت هناك ثمة حسابات وقرار ناتج عنها بذهاب كيان الاحتلال إلى خوض حرب جديدة، جاءت الزيارة من أعلى مرجع مسيحي روحي في العالم لتكشف حجم التخلي العربي عن لبنان الذي لم يزره رئيس أو أمير أو ملك عربي رغم كل ما مر عليه من أهوال، وهو يؤكد عروبته ويتخذ من النظام العربي الرسمي سقفاً له، وسقطت مع الزيارة الذريعة الأمنية لغياب الزيارات العربية، طالما أن بإمكان البابا القيام بزيارة فإن بإمكان سواه أن يفعل أيضاً، ولذلك تعامل اللبنانيون بكل طوائفهم مع الزيارة كتعبير عن عاطفة صادقة فبادلوها بمثلها.

– على مستوى الكلمات لم يكن هناك الجديد الذي يمكن رصده كحدث يسجل للزيارة، حيث تحركت الكلمات في سياق معلوم لأصحابها، سواء كلمات البابا أو كلمة رئيس الجمهورية، وهذا ليس أمراً سلبياً، لأن القول بأنها استكمال لسياق سابق، صار أمراً إيجابياً، حيث كل تغيير يتوقع أن يأتي استجابة لمناخ تفرضه الضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية، فهو تراجع عن سياق سابق إيجابي، والكلمات السجالية مثل السلام دون إضافات توضح معناه وتربطه بعودة الحقوق، ليس جديداً، فهذه لغة الفاتيكان التقليدية، والكلمات الرئاسية السجالية مثل “أبناء إبراهيم” امتداد للرغبة بالإشارة إلى أن لبنان ليس منفصلاً عن سياق عربي عام، لكنه ينتظر اكتمال شروطه وأولها وقف الاعتداء عليه واستعادة أراضيه، وبهذا تكون الكلمات قد مرّت بسلام، فلم تتحول المناسبة إلى منصة يطلب فيها من لبنان المزيد أو يعرض لبنان فيها الاستعداد للمزيد، بينما سجلت لكلمة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الشيخ علي الخطيب إشارة واضحة إلى المقاومة والسلاح رداً على الاعتداء والاحتلال.

– الأهم كان ما رافق الزيارة من إشارات لبنانية، كانت أولاها ما كشفته عن حقيقة تنفي كل ما يتم ترويجه عن تباغض وتنابذ على الصعيد الطائفي بين اللبنانيين، حيث ظهر أن الاحتفاء بالزيارة لم يكن تعبيراً شعبياً قسرياً بقوة قرار الجهات السياسية، فظهر أن الإقبال المسيحي كان كبيراً عبّرت عنه حشود الشباب في بكركي وحشود المحتفلين في قداس ساحة الشهداء، وبالمقابل كان على الطرف المقابل للتناقض السياسي الذي يشكل الموقف من المقاومة وسلاحها موضوعه الأبرز، ما ظهر من حماس وعفوية في تفاعل الشارع المؤيد للمقاومة والبيئة الشيعية عموماً مع الزيارة، ولأن سائر اللبنانيين يقعون بين هذين القطبين السياسيين والطائفيين، يمكن القول إن أرضية التوافق والتلاقي بين اللبنانيين هي أكبر بكثير عندما يتصل الأمر بالآلاف وعشرات الآلاف، مما تبدو على شاشات التلفزة حيث يختصر اللبنانيون بعشرات المتحدثين، أو على وسائل التواصل الاجتماعي حيث تحتكر بضع مئات ادعاء التحدث باسم الشعب اللبناني.

– الإشارات الأهم على هامش الزيارة كانت تبديد كل ما حاولت صناعته حملة الشيطنة التي استهدفت بيئة المقاومة وخصوصاً مؤسساتها التربوية والكشفية، كمصانع لإنتاج عشاق الموت، فظهر فتية الكشافة عشاق حياة، من تحدث منهم على صغر سنهم عارف ببلده متمسك به وتنوعه، يعرف مَن هو الآخر الطائفي ويُحبّه، ونظراً إلى الشكل والإطار العفويّ لما ظهر، يستحيل تقبل فكرة أن أحداً قام بتلقين جملة “يقبرني الصليب” لهذا الفتى الذي هتف بها من عميق قلبه، والتعبير لا يستقيم دينياً أصلاً كي يتم تلقينه، لكنه تعبير صادق رائع يصعب تبديد أثره، ولذلك كان عملاً إعلامياً جباراً أسقط ما ظنّ خصوم المقاومة أنّهم قاموا ببنائه من جدران حولها لعزلها، كذلك عبرت التعليقات الصادرة عن فتية الكشاف عن فهمهم للزيارة وربطها بمفهوم العيش المشترك ومحبة الديانات الأخرى والتمسك بالشراكة الوطنية، بتعبيرات ارتجاليّة صاغها كل منهم بطريقته التي كانت كافية لإظهار أنها فعل إيمان لا تكلّف أو تصنّع.

– الغاضب الوحيد كان القوات اللبنانية، وقد كان ممكناً حجب هذا الغضب وتركه للمعاتبات لاحقاً، لكن الأمر سيطر على تعليقات مناصري القوات، وتحميل رئيس الجمهورية مسؤولية تغييب القوات، علماً أن نظرة سريعة على الحضور تكفي للانتباه أن كل من ليس لهم صفة رسمية كانوا من الذين شملهم الاستثناء من الدعوات إلى القصر الجمهوري وشملتهم الدعوة للقداس الذي قرّر جعجع مقاطعته، والغضب القواتي يجب أن يفهم انه امتداد لغضب سياسي معلن من الرئاسة التي ترفض الاستجابة لدعوات استخدام الجيش لنزع سلاح المقاومة بالقوة، والغضب بالمقابل يأتي بمثابة احتجاج على عدم استخدام الفاتيكان نفوذه كشريك في ترتيبات الزيارة لحجز مكانة للقوات تتناسب مع نظرتها إلى نفسها كممثل أول للمسيحيين يتقدم على رئيس الجمهورية، الذي تعتبر القوات أنها هي مَن جاءت به رئيساً.

– انتهت الزيارة دون أي حدث أمني، وهذا نجاح يسجل للقوى العسكرية والأمنية، وبالرغم من بعض الانتقادات البروتوكولية والإدارية نجحت أجهزة الرئاسة بإدارة حدث ضخم بهذا الحجم باحتراف.