Beirut weather 24.1 ° C
تاريخ النشر November 27, 2025
A A A
صراع الأوهام اللبنانية: وهمان لا ينتجان حقيقة
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

– قد يبدو طرح السؤال حول قدرة اللبنانيين على مواجهة التحديات في ظل الانقسام رومانسياً للوهلة الأولى، حيث الانقسام بين اللبنانيين أشدّ من أي مرحلة سابقة، واللغة العصبية التي يعبر الانقسام عن نفسه عبرها تزداد توتراً مشحونة بمزيد من الكراهية، لكن السؤال مطروح لأن بقاء هذا الوضع وتصاعده يمثل انتحاراً حتمياً لا مفر منه لكل اللبنانيين، والسؤال مطروح بقوة لأن هذا الانقسام ثمرة أوهام وليس تعبيراً عن حقائق ووقائع، ولأن التحديات التي تواجه اللبنانيين لا تستثني منهم أحداً، ولأن مصير بلدهم ودولتهم وأمنهم واقتصادهم على المحك دفعة واحدة.

– الانقسام الحاصل هو في الحقيقة بين وهمين محورهما الموقف من سلاح المقاومة، حيث يلتقي المنقسمون على اعتبار الموقف منه جوهر القضية المحورية الراهنة، والانقسام لا يأخذ بالاعتبار الثنائية التي يدركها الفريقان، شقها الأول أن حصر السلاح منصوص عليه في اتفاق الطائف والقرار 1701، ولذلك كرره خطاب القسم والبيان الوزاري، والشق الثاني من الثنائية أن ما نفذ من حصر السلاح في جنوب الليطاني هو أعلى حد مستحق على المقاومة قبل أن تنسحب “إسرائيل” إلى ما وراء الخط الأزرق وتوقف اعتداءاتها، وبدلاً من أن يتحقق الإجماع على هذا الموقف، الوارد في البيان الوزاري وخطاب القسم، باعتبار الأولوية الراهنة هي الضغط لفرض الانسحاب الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الأزرق ووقف الاعتداءات اليومية لقوات الاحتلال، وتمهيد الطريق لوضع استراتيجية دفاع وطني يجري في قلبها النظر في شأن السلاح، يطغى الانقسام على الاحتمالات الواقعية لدعوة الوحدة التي يفرضها إدراك هذه الثنائية.

– ينقسم اللبنانيون بين مَن يرى أولوية نزع السلاح الآن وكل السلاح وفي كل لبنان رغم إدراكه مجافاة ذلك لكل القرارات والاتفاقيات والمعايير القانونية، وذلك بوهم أول يفترض أن هذا هو الطريق كي يتم كسب التأييد العربي والدولي لخلق مناخ ضاغط على “إسرائيل” تكون أميركا جزءاً منه يؤدي إلى انسحاب الاحتلال ووقف الاعتداءات. وهذه رؤية مراهقة وصبيانية، ولا تفهم طبيعة المتغيّرات التي تتهم سواها بعدم إدراكها، فالمقاربة الأميركية لا تختلف عن المقاربة الإسرائيلية في استبدال مفهوم الحدود الشرعية بالحدود المفيدة والحدود الآمنة، ووفقاً لمفهوم الحدود المفيدة والحدود الآمنة تتطلع واشنطن نحو ضم كندا والوصاية على بنما والاستحواذ على غرينلاند. ووفق هذا المبدأ تطالب واشنطن أوكرانيا بالتنازل عن ثلث مساحتها لروسيا، كثمن لوقف الحرب الروسية عليها، ووفقاً لهذا المبدأ لم تنجح ولا يبدو أنها سوف تنجح كل المحاولات السورية التي يتطلع اللبنانيون لتقليدها، ليصح بهم القول يطعمهم الحج والناس راجعة، وها هي سورية تحظى بكل الدعم الذي يطمح به لبنان وتذهب للتفاوض المباشر على أعلى مستوى وتضمن أمن “إسرائيل” من حدودها ومستعدة لتناسي ملف الجولان المحتل وتكتفي بالعودة إلى خطوط فك الاشتباك وليس فيها لا مقاومة ولا سلاح مقاومة، وكل ذلك لم ينجح بنقلها إلى واحة الأمن بوقف الاحتلال خارج خط فك الاشتباك ووقف توغلاته أعمق منه، ووقف الاعتدءات واستباحة الأجواء، والسبب بسيط وهو مفهوم الحدود المفيدة والحدود الآمنة، المفيدة بالوصول إلى النفط والمعادن والمنشآت السياحية أو المياه أو كلها، والآمنة حيث الاطمئنان فقط إلى السيطرة البرية والجوية لجيش الاحتلال.

– الوهم اللبناني الثاني ليس لدى المقاومة، ولا لدى الثنائي كقيادة سياسية، بل في وسط مؤيدين كثر لهما، يعتقدون أن المعركة المحورية هي مع جماعة نزع السلاح، بينما كل الوقائع تقول إن التفاعل مع هذه المعركة والاستجابة لها بتعميق الانقسام، لا يخدم معركة إخراج الاحتلال وإنهاء اعتداءاته، وإن جوهر معركة المقاومة الراهن هو التمسك بثنائية، ليس الآن بالنسبة للسلاح فقد قمنا بما علينا في الاتفاق، والباقي يبحث ضمن استراتيجية الدفاع الوطني بعد تنفيذ الاحتلال موجبات اتفاق وقف إطلاق النار كما نفذنا. وعلى قاعدة هذه الثنائية بناء شبكة أمان وطني عابرة للطوائف تدرك أن “إسرائيل” الجديدة الخارجة من حرب السنتين ومن هيمنة التوراتيين على الحكم، هي تلك التي حذّر من أطماعها التوسعية وخطرها الوجودي على لبنان كل من ميشال شيحا وشارل مالك، وأن الوحدة الوطنية أهم سلاح في مواجهتها. وهنا لا بد من منح الوقت والخطب الهادئة للشرائح اللبنانية التي لم تنتبه بعد لحجم التغيير في البنية الإسرائيلية والمفاهيم الأميركية، كي تنتبه وتدخل النقاش من المكان الصحيح، كيف نسترد أرضنا ونحمي بلدنا، وإذا كانت المواجهة مكلفة وليس أكيداً أنها تجدي، فإن خيار التفاوض والرهان على الضغط الخارجي، لم يثبت جدواه أيضاً، حيث إن الاتفاق الذي ولد من التفاوض لا ينفذ، والضامن الأميركي انسحب من ضمانته، وكل تفاوض جديد ينتج اتفاقاً جديداً وضمانة جديدة، محكوم بما جرى مع هذا الاتفاق المولود من التفاوض، وأنه مقابل اعتراف المقاومة بعدم كفايتها بدلاً من عدم جدواها، لا بد من اعتراف الدولة بعدم كفايتها وليس بعدم جدواها.

– الاعتراف بأن أحداً من اللبنانيين لن يستطيع حل المعضلات وحده، ولا مواجهة التحديات وحده، كشريحة وكفكرة ومشروع، فالكل يحتاج الكل، للتفكير معاً دون ادعاءات فارغة بامتلاك خريطة طريق جاهزة، ولا أحد لديه خريطة طريق جاهزة، ولا أحد يمكن الاستغناء عنه، وما لدى المقاومة كوجود ولو لم يستخدم ضروري، وما لدى الدولة من حضور وشرعية وجيش وموقف وإمكانات ضروري، وإن التلاقي والحوار والتواضع عناصر ضرورية لتخفيف الخسائر إذا كان تحقيق الأرباح متعذراً، والبدء بتحقيق تراكم للصمود والبحث عن حلول تكتيكية للمشاكل الملحّة، مثل إعادة الإعمار، وتمكين الجيش، وتعميم مناخات التساكن الهادئ، وعدم الخشية من نقاش الخلافات، لكن الخلافات الحقيقية وليس الوهمية، وعلى قاعدة تحييد ما ليس راهناً منها، والتأسيس على المشتركات وهي كثيرة، وعدم السير بالانفراد بخيارات تغير البيئة الاستراتيجية لحل مشكلات تكتيكية افتراضية.

– قال المفكر جورج نقاش في وصف الإشكالية اللبنانية، إن لبنان قام على نفيين، نفي المسيحيين لطلب الوصاية الأجنبية، ونفي المسلمين لطلب الوحدة العربية، والنفيان لا يبنيان وطناً، واليوم يعيش اللبنانيون في وهمين والوهمان لا ينتجان حقيقة.