Beirut weather 24.1 ° C
تاريخ النشر September 27, 2025
A A A
أنا ابن القرى الحدودية التي أعدتَ لها كرامتها!
الكاتب: علي سرور

كتب علي سرور في “الأخبار”

عاد السابع والعشرون من أيلول بسرعة قياسية، لم يُسعف التشييع المتأخر في مداواة الألم، بل على العكس. من الصعب للعقل أن يتقبّل بأنّ مئات الأيام مضت فعلاً في هذا العالم من دون السيد. فكيف ذلك والروح لا تزال مكسورة منذ عصر ذاك الجمعة اللّعين؟

هذه الفترة عادةً ما تكون كفيلة للبشر بتجاوز محن خسارة أحد الأحبّة من العائلة أو الرفاق، لكنّ هل يمرّ يوم من دون تلك الشردة لدقائق، تهجم فيها الذكريات والأحداث في محاولة لاستعياب الحقيقة المرّة، هو فعلاً رحل؟ والحقيقة الأمرّ أنّ هذه الحالة ليست بمنفردة أو لبغض العقول أو الفئات، إنّما حالة مجتمعية واسعة يعانيها الآلاف من دون الوصول إلى تلك السكينة.

يحدّد علم النفس مراحل الحزن في التعامل مع خسارة كبيرة ضمن خمس: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، والقبول. أمّا في حالة السيّد، فيمرّ محبّوه بجميع أساليب التعامل مع الخسارة في الوقت تفسه، ما عدا مرحلة القبول.

الجميع في حالة إنكار، بمستويات مختلفة، جزء صغير من الدماغ، لا يملك الجرأة على البوح بالعلن بما يكمنه، بعد عام والأمل لا يزال، بأنّه لم يرحل، سيعود.

في الوقت نفسه، يعمل الدماغ الواهم على تقسيط الأسى المكتوم داخل الأرواح. تمضي أيام وفي بعد الأحيان أسابيع، يدخل الشخص في طمأنينة كاذبة بأنّه استطاع تقبّل المأساة، والمضي قدماً، وإذ بلحظة ما عندما تهدأ الحياة بسرعتها وطوشتها، تتصبّر الروح وينشلّ الدماغ ويقف الزمن، كأنّ الخبر يخرج في هذه اللحظة من جديد، السيّد رحل فعلاً. وبين هذا وذاك، عدم القبول بالواقع هو ما يوحّد جميع المحبّين.

وعلى طريق الوصول إلى العافية السليمة بعودة الجهاز العصبي للعمل بشكل طبيعي للإحساس بهذه الدنيا التي فقدت شمسها، نحاول مشاركة التجارب، نُخرج ما نخبّئه تحت خطوط معقّدة من الدفاع في روح أرواحنا، حكايات تروي ما هو السيّد بالنسبة لنا، من هو، هل سيعود أي شيء ليكون جميلاً كما كان؟

هذه ليست حكاية إستثنائية ولا روايات عن سيرة ذاتية، إنّما قصّة متواضعة كغيرها من الآلاف التجارب المكتوبة بحبر الألم والدم والتهجير والدمار، لكن مجبولة بالانتصارات والعزّة والحريّة والكرامة. حكاية تروي مساراً طويلاً من الأمل والحب والحنان، ومن الشجاعة والتضحية وكسر القيود، رسمها السيد حسن نصرالله بيمناه المرعبة التي هزمت أقوى جيش في الشرق الأوسط، بل أرعبت وأعادت حسابات أعتى طغاة مرّوا على هذا الكوكب.

كإبن إحدى القرى الحدودية المشتبكة لعقود مع الكيان الشيطاني، أو كما نحبّ أن نوصفها بقلعة المقاومة التي كسرته في حرب تموز عام 2006 أي عيتا الشعب، تعود قصصنا مع الاحتلال إلى بدايات تشكيل كيانه اللقيط.

السيّد بالنسبة لنا ليس قائداً يجلس في بيروت يحرّك تنظيمه لمواجهة الظلم في كل مكان، بل هو البطل الخارق الذي صحّح مساراً طويلاً من الألم والذلّ الذي تعرّضنا له جيل بعد آخر.

هو من أعاد الكرامة لجدّي بعدما حاول العدو وعملاؤه سرقتها منه منذ ما قبل احتلالهم لجنوب لبنان. كانوا يومها يحرصون على إهانة الأشخاص الذي لهم مكانة بين الناس، عبر «كفّ» يسلب الرجولة أمام جميع أهل القرية الحاضرين، ليعطيها للعميل البلطجي الذي تحوّل من نكرة إلى جاه لا يُقارع، يستملك الأراضي التي يريدها من دون رقيب، ويهين أياً كان، تحت سلطة البندقية الإسرائيلية.

حتّى الذهاب إلى المستشفيات ليلاً في الستينيات والسبعينيات كان عملية انتحارية، فهي على ندرتها في تلك المناطق، تتطلّب التنقّل طويلاً، بينما الأوامر القسرية للعدو منعت حينها التحرّكات والأضواء بعد التاسعة ليلاً. وبين روايات المعاناة التي لا تنتهي، مثلاً نزوح الأطفال بسبب القصف المدفعي العشوائي ليلاً للنوم في قرى النسق الخلفي، ثم يعودون نهاراً للتحصيل العلمي أو للزراعة.

لكنّ سيّدنا أرعب قلوبهم حتى قبل أن يعرفوه، فكان العدو يأخذ في تلك المرحلة الرجال من القرى الامامية في رحلات سياحية داخل فلسطين المحتلة في محاولة للتقرّب منهم.

وفي إحداها، يذكر سائق الحافلة الإسرائيلي لأحد رجال القرية الذي لا يزال على قيد الحياة حتى هذا اليوم وقدّم ولداً مقاوماً شهيداً، أنّهم كإسرائيليين. وعلى الرغم من ميزان القوى الذي كان حينها مائلاً من دون منازع لصالحهم، يؤمنون بأنّ الخطر الكبير على كيانهم سيأتي من الشمال، من جنوب لبنان. هذا السائق، رغم تواضع مستواه التعليمي والثقافي وعلمه السياسي، كان على حقّ ولا يزال.

ومضى الزمن بنا من معاناة لأخرى من دون أمل، فمسار ما قبل الاجتياح بما تضمّنه من ظلم وحرمان وتهميش واستضعاف، ارتقى بعد الاحتلال إلى مرحلة التهجير والقتل الأوسع، وتقسّمت العائلات بين من بقي في الجنوب وبين من هُدّد بين الانضمام إلى جيش لبنان الجنوبي الإسرائيلي، أو معتقل الخيام، فكان التخلّي عن هذا المصير بالنزوح الذي دام طويلاً.

وبعد إنجازات جميع الحركات المقاومة الوطنية في دحر الأثر الصهيوني من بيروت وصيدا والجبل، استقرّ الاحتلال في القرى الحدودية راسماً منطقة عازلة بعيدة عن المركز اللبناني ومهمّشة من اهتمام جزء كبير من اللبنانيين المشغولين بلملمة البلاد بعد حرب أهلية طويلة. لكنّ الجنوب لم يبق وحيداً، قام الفارس الأسطوري لينهض بشعب مكسور ضائع لم يتجرّأ حتّى على الحلم بالعودة إلى حريّته وقراه. دخل السيّد على خطّ كتابة التاريخ، في عام 1992 بعد تسلّمه قيادة المقاومة، وتصدّيه لعدوانيّ تموز 1993 ونيسان 1996، كتب مسارا جديداً من استنهاض الأرواح والنّفوس.

كنّا عندما نعود من المدرسة لنسمع بخبر عمليّة لرجال نصرالله يحرّرون أحد المواقع الجنوبية، يطيحون بعلم الكيان بنداء «لبيّك يا نصرالله» نسترجع الكرامة المهدورة يوماً بعد يوم.

بطولات تسطّرها المقاومة في الميدان ونرسمها نحن على أوراق أمامنا، نحفرها في ذكرياتنا، تجبل كياناتنا الشخصية لتبني أجيالاً لا تعلم معنى المستحيل ولا تقبل بالغطرسة. السيّد لم يكن مجرّد قائد مميّز، بل كان شخصية استثنائية غيّر مجرى التاريخ بإمكانيات بشرية وتقنية متواضعة، وإلّا، كيف تحقّق التحرير عام 2000؟ ما هو الموجود عسكرياً في لبنان ولم يكن متوفّراً في سوريا أو مصر، ولا حتى الجيوش العربية مجتمعة؟

وبينما كان يوم التحرير لا مثيل له في المجالات السياسية والاستراتيجية وشكّل عنصراً رئيسياً في رسم معالم الخطة الأميركية الإسرائيلية للمنطقة من بعده، إلا أنّنا كأهل الشريط الحدودي، لا تُسعف اللغة العربية الغنيّة في تفسير حقيقة ما حصل يومها، فكيف تستطيع تفسير شعور أن تحصل على الحريّة، أن تدخل إلى قريتك للمرّة الأولى، وأن تتعرّف إلى أقربائك ونصف العائلة الآخر، تلعب لعبة تخمين لتحديد هويّة كل شخص بحسب ما تعلمه عن معالمه.

لم يكن السيّد موجوداً حينها فقط في بنت جبيل لتلاوة خطاب النصر، بل حضر في كل دمعة وبسمة. ولم يأب أن يحمل بشائر التحرير فحسب، بل ارتقى إلى مستوى أذهل العالم عندما كسر الزحف الإسرائيلي إلى لبنان في 2006 وأعطى أمر تدمير البارجة «ساعر» بالطريقة الهوليودية الشهيرة، معلناً للقاسي والداني: هذا الوطن لم يعد لقمة سائغة، هو أعند وأعتى من أقوى جيش في المنطقة.

لا يمكن اختصار 32 عاماً من الحبّ المتبادل بين السيّد والشعب، ولن تنجح المآسي في تغييب إنجازاته الأسطورية. لكنّ مساء ذاك الجمعة اللّعين، نجح الظلام في السيطرة على أبداننا، منذ اللحظة الأولى لرؤية الحزام الناري النادر، علمت بأنّك رحلت. لم تعان الضاحية من ضربة مشابهة إلا لمرّة واحدة خلال حرب تموز 2006، عندما قيل إنّ العدو حاول استهدافه قرب منطقة الرويس، مدمّراً أكثر من عشرة أبنية.

هذا الشريط من التحليل والتفكير في الثواني الأولى، أوصلني إلى نتيجة، مع ما سبق من اختراقات واسعة، السبب الوحيد الذي يدفع العدو إلى هكذا ضربة، هو حصراً هدف لا مثيل له، فقال فمّي ما لم نُهيّأ يوماً للتعامل معه.. «راح السيّد».

هذه ليست حكاية إحباط ولا النهاية، فهو من منعنا من اليأس وحرّم علينا الضعف، ما فعله آلاف الشبّان المقاومين بدمائهم لحماية لبنان بعد استشهاد السيّد، هو واجب أيضاً باستكماله على من يؤمن بهذا الإرث في كافة المجالات، وأهمّها هو المستوى الشخصي.

لقد عمل عشرات السنين على استنهاض العزائم، أمّا اليوم، فهذه مسؤولية أصبحت على عاتق كل شخص يؤمن بحريّته. عشرات السنين من التراث المقاوم في خطابات السيّد تفرض على من يريد الإخلاص لهذا القائد، بأن يرفض الظلم انطلاقاً من نفسه، يأبى الإخضاع والانكسار، يُعاند التحدّيات مهما كانت، شخصية أو سياسية أو حتّى وجودية.

لا نريده أن يكون وداعاً، لا نعلم أصلاً فيما سنتمكّن يوماً من إخراج ذاك الوجه الجميل من بالنا، ببأسه الشديد على الأعداء، فكلّ رايات الحقّ في التاريخ لا تزال شامخة بعد رحيلها بعقود طويلة، فكيف بسيّد القلوب.

سنبلسم الجراح بالجراح، لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، لن تهمد كلمة الحقّ أمام جبروت الباطل، فآخر مفاجآت السيّد التي نكّلت بإسرائيل أعواماً وأعوام، سيعلمها الكيان عاجلاً أم آجلاً، بأنّ الشهيد حسن نصر الله أخطر بكثير، لأن دماؤه سترفع من مسؤوليات الجميع. وعوضاً عن سيّد واحد، سيكتشفون أنّهم خلقوا مئات الآلاف من حسن نصرالله، بنفس عزيمته وإصراره على مقارعة الظلم.

لقد أذاقنا شعور الحريّة والكرامة، ومن يستلذّ بهذا الإحساس لن يعرف الحياة مجدداً من دونه. للباطل جولة لكنّ للحقّ جولات، لم تنته القصّة هنا، بل انطلقت حكاية جديدة ببركة تضحيات السيّد وتخليداً لأسطورته، لتُنهي يوماً ما بدأه منذ عقود: يجب أن تزول إسرائيل من الوجود.