Beirut weather 25.77 ° C
تاريخ النشر August 22, 2025
A A A
«إسرائيل الثالثة» والإبادة التالية
الكاتب: خليل كوثراني

كتب خليل كوثراني في “الأخبار”

عام 2012، افتُتح في القدس المحتلة مركز دراسات يُدعى «منتدى كوهيلت». سريعاً، باتت هذه المؤسسة أقوى إطار مؤثّر في كواليس السياسة الإسرائيلية على نحو غير مسبوق، إلى حدّ أنها تسهم في رسم تفاصيل تحالفات بنيامين نتنياهو الحكومية مع قوى «الصهيونية الدينية» وتوزيع الحقائب في ما بينهم؛ لا بل إن ام«كوهيلت» هي التي صاغت مشروع يهودية الدولة (قانون القومية) المُقرّ في عام 2018.

يُعدّ نشاط نخبة «كوهيلت»، كمركز صناعة أفكار وجماعة ضغط، علامة فارقة في بلورة نظرية انزياح اليمين الإسرائيلي نحو ما يُطلق عليه «إسرائيل الثالثة». لئن أنهى فوز «الليكود» اليميني بانتخابات 1977 «إسرائيل الأولى»، دولة حزب «العمل» والغلبة «الأشكنازية» العلمانية والعمالية الاشتراكية، لصالح اليمين المحافظ والنيوليبرالي ومشاركة «المزراحيين»، فإن «إسرائيل الثالثة» يمكن تعريفها بأنها تقوم على خيار «الحسم» في مقابل اتجاه «إدارة الصراع».

صحيح أن اليمين، ومنذ عام 1977، بات يزحف لانتزاع احتكار الصهيونية التقليدية للفضاء السياسي الإسرائيلي، إلا أنه استقرّ في التسعينيات على ستاتيكو يُسمى «إدارة الصراع» تجاه الداخل والخارج: «أوسلو» وفكّ الارتباط مع غزة، من جهة، وبقاء الإعلام والقضاء والمؤسسات الأمنية في سطوة «ليبرالية أشكنازية»، من جهة أخرى.

هذا ما يشرح تركّز ساحات النزاع الداخلي الحالية، حيث يستميت تحالف «الليكود» والصهيونية الدينية، بعد إنجازه قانون يهودية الدولة، في ضرب نفوذ السلطة القضائية كصاحبة حق نقض لتشريعات أو قرارات تنفيذية تتناسب والرؤية التي تتقاطع عليها هذه التيارات. إلا أنها جميعها معارك يمكن وصفها بالمعارك الآلية لأجل الغاية الجوهرية: الذهاب حتى الآخر في حركة الاستيطان وضمّ الضفة.

تقوم فكرة إسرائيل الثالثة على أنّها «مملكة المستوطنين» على كامل «أرض الميعاد»

في هذه «الإسرائيل»، يتكتّل ويتفاعل مع اليمين كلّ من: الحركة الاستيطانية والصهيونية الدينية والديموغرافيا الحريدية، مقابل الوسط الليبرالي والعلماني ومركزه الشريط الساحلي. يجعل اتجاه «الحسم»، «الخارج» في إسرائيل، «داخلاً» بامتياز؛ إذ تقوم فكرة إسرائيل الثالثة على أنها «مملكة المستوطنين» على كامل «أرض الميعاد» – وفي القلب منها «يهودا والسامرة» (الضفة الغربية) -، التي تتوسّع ولا تقبل بـ«إدارة الصراع» على أساس «دولة فلسطينية»، مثلاً، أو تعايش متساوٍ بين اليهود وغيرهم، بل تسعى لتغيير الوقائع على الأرض وتصحيح الأخطاء التاريخية للآباء المؤسّسين، بما يقطع الطريق على أيّ إمكانية لخيار آخر.

لا بل إن التهويد المطلق للجغرافيا والدولة في فلسطين التاريخية ما بين النهر والبحر، يمثّل الحدّ الأدنى لهذا المشروع الذي لا يخفي طموحه إلى قيام «إسرائيل الكبرى» وتوسّع الاستيطان والضم إلى شرق الأردن وجنوب لبنان وسوريا وشبه جزيرة سيناء.

أمس، وقف بتسلئيل سموتريتش حاملاً خريطة وهو يحتفل مزهواً بإقرار الحكومة خطته لمشروع «E1» الاستيطاني، وعلّق قائلاً: «إنها خطوة هامة تُبدّد عملياً وهم الدولتين وتُرسّخ قبضة الشعب اليهودي على قلب أرض إسرائيل»، ثم تابع: «إن الدولة الفلسطينية تُمحى من على الطاولة ليس بالشعارات، بل بالأفعال. كل مستوطنة، كل حيّ، كل وحدة سكنية هي مسمار آخر في نعش هذه الفكرة الخطيرة». ولمزيد من الوضوح، وضع نتنياهو، بدوره، القرار في إطار الردّ على سلسلة الاعترافات الأوروبية الأخيرة بالدولة الفلسطينية، وقال: «وجود دولة فلسطينية يعرّض وجود إسرائيل للخطر».

نحتاج هذه الأيام إلى وضوح سموتريتش (كما وضوح تصريحات نتنياهو عن «رؤية إسرائيل الكبرى») لنخلص، وسط الغيبوبة العربية واللهاث خلف التطبيع ونزع السلاح، إلى أن الخطة التي تفصل شمال الضفة عن جنوبها تماماً عبر وصل شرق القدس بمستوطنة «معاليه أدوميم»، وتفصل كذلك القدس الشرقية عن الضفة، تمثّل أبرز محطة، منذ إقرار يهودية الدولة، على طريق «إسرائيل الثالثة».

الأهم والأخطر أن الأمر لن يقف عند ذلك الحدّ، إنما هو فاتحة لمسار الضم الاستيطاني، نظراً إلى هذا الاختلاف مع «إسرائيل الثانية»: بؤر ومشاريع استيطانية وسيطرة عسكرية وأمنية. المطلوب ـــــ وهنا جوهر الخلاف مع يمين التسعينيات ــــــ هو الضم الكامل وإعلان السيادة والسيطرة المطلقة على كل الأرض المحتلة.