كتب ناصر قنديل في “البناء”:
بعد أيام من إعلان حكومة بنيامين نتنياهو انطلاق حرب الردّ على طوفان الأقصى أعلن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في 13 تشرين الأول 2023 حشد الأساطيل الأميركية في البحرين المتوسط والأحمر تحت شعار الردع، محذراً جميع القوى في المنطقة من المخاطرة بالتدخل في مواجهة الحرب الإسرائيلية على غزة، وكانت جبهة إسناد غزة من لبنان قد بدأت بينما كانت تستعدّ جبهة اليمن وجبهة العراق، وبالرغم من عدم تفعيل معادلات الردع بوجه جبهتي لبنان والعراق مبكراً فإن واشنطن بادرت في 30-12-2023 بتشكيل حلف عسكريّ أسمته حارس الازدهار لمواجهة جبهة الإسناد اليمنية، التي أخذت على عاتقها بداية إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة إلى عمق كيان الاحتلال، وأضافت إليها لاحقاً إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية بدءاً من 19 تشرين الثاني 2023، فردّ اليمن على الانخراط الأميركي إلى جانب كيان الاحتلال بتحمل مسؤولية مواجهة جبهة الإسناد اليمنية، بإضافة السفن الأميركية والبريطانية إلى المنع في 11-3-2024.
نحن إذن أمام معادلتين، واحدة اسمها التدخل الأميركي لمساندة “إسرائيل” وحمايتها بموجب قرار تشكيل حلف حارس الازدهار في 30-12-2023، والثانية اسمها وحدة الساحات وترجمتها بموجب قرار منع السفن الإسرائيلية من عبور البحر الأحمر في 19-11-2023، وكل ما جرى بعد هذين التاريخين هو امتداد لهذه المواجهة، سواء الغارات الأميركية المتصاعدة على اليمن أو منع السفن الأميركية من عبور البحر الأحمر بقرار يمني استهداف حاملات الطائرات والقطع الحربية الأميركية في البحر الأحمر. وقرار وقف إطلاق النار بين اليمن وأميركا الذي تم بوساطة عمانية، يعني عملياً حل تحالف حارس الازدهار الهادف لإعلان الحرب على اليمن رداً على منعه السفن الإسرائيلية أو رداً على إعلان مشاركة اليمن بوحدة الساحات، وخروج أميركا من المواجهة مع اليمن دون خروج اليمن من نصرة غزة ووحدة الساحات، والاكتفاء بعودة الأمور إلى ما قبل تشكيل حارس الازدهار، حيث كانت السفن الإسرائيلية ممنوعة وصواريخ اليمن تستهدف الكيان، لكن لا استهداف يطال القوات الأميركية ولا منع يطال سفنها، يقول دون مواربة إن اليمن ربح الحرب على أميركا.
عملياً قد تصل سفن أميركية إلى موانئ الكيان عبر البحر الأحمر ولا يعترضها اليمن، علماً أن اليمنيين يؤكدون خلاف ذلك، وعلماً أن مسار السفن الأميركية الى الكيان هو مسار الأطلسي مضيق جبل طارق فالبحر المتوسط وموانئ الكيان لأنها أقصر بـ 9860 كلم، وأقل كلفة وأشد أمناً، لكن حتى لو حدث ذلك ولو بقي الالتزام بتقديم دفاعات جوية أميركية لـ”إسرائيل” لصدّ أي هجوم، فإن الذي تم واضح وهو انسحاب أميركا من جبهة إسناد “إسرائيل” ووحدة الساحات معها، والاكتفاء بموقع في حروب “إسرائيل” يشبه موقع إيران من حروب قوى المقاومة التي تشكل وحدة الساحات وتتناوب عليها، وهو موقع التأييد والدعم المعنويّ والماليّ والتسليحي ورفض التفاوض بالنيابة عنها، لكن التزام معادلة الدولة الإقليمية الكبرى في حالة الحرب وشروط دخولها، ولعل هذا التموضع الأميركي الجديد والكبير أكبر تحوّل يمكن تسجيله في الاصطفافات منذ طوفان الأقصى.
القرار الأميركي بالتراجع عن حارس الازدهار مقابل القرار اليمنيّ التمسك بوحدة الساحات، لم يتمّ اتخاذه عشوائياً، فقد تحوّلت المنازلة مع اليمن من الجانب الأميركي إلى حرب استنزاف كابر الأميركيّون على الاعتراف بحقيقتها، لكنها حرب فاشلة ولا أمل بالفوز بها، وحرب تتدحرج إلى حافة الهاوية مع تطور الصواريخ اليمنيّة ودقتها ورؤوسها المتفجّرة الكبيرة وخطر إصابتها المباشرة لسفن حربية وحاملات طائرات ووقع كارثة يصعب تجنّب التورط بحرب كبرى بسببها، وصارت واشنطن وفق نظر عكسرييها الكبار بين خيارين، الانسحاب أو الغزو الشامل لليمن بمليون جندي في حرب فيتنام جديدة، فقرّرت الانسحاب، والانسحاب ممكن عبر طريقين، وقف حرب غزة وهو ما لم ينتبه نتنياهو أنّه الأفضل لمصلحته لو قام بتسهيل حدوثه، أو فكّ الارتباط بحروب نتنياهو وحل حارس الازدهار رغم تمسك اليمن بوحدة الساحات وإسناد غزة.
لا ينفصل القرار عن استراتيجية بدأت بفتح التفاوض مع إيران وفقاً لشروطها ودون إقامة حساب لشروط نتنياهو ورؤيته، وربما يكون له تداعيات مشابهة في أي مواجهة يقررها نتنياهو مع إيران، فلا تشترك بها أميركا ولا تعتبر أن استهداف إيران لعمق الكيان يلزمها بالحرب مع إيران، بل بالحد الأعلى تقديم المساعدة الدفاعية فقط،، ولعل أهم ما قاله الاتفاق لكل الذين تحدثوا عن موت محور المقاومة وأولهم نتنياهو ومن بعدهم أيتامه العرب واللبنانيين الذين ردّدوا كالببغاوات مع خروج جبهة لبنان من جبهة الإسناد أن وحدة الساحات ماتت، وها هو معلمهم جميعاً دونالد ترامب في وضع شبيه بوضع حزب الله في لبنان وبعد خسائر شبيهة يقرّر قبول وقف إطلاق نار ثنائي منصف دون أن يشترط شموله “إسرائيل”، كما قبل حزب الله وقف إطلاق نار منصف دون اشتراط شموله لغزة.