كتب ناصر قنديل في “البناء”:
أراد بنيامين نتنياهو الرد على غارة صاروخية يمنية أرعبت مستوطني كيان الاحتلال وأنزلت ثلاثة ملايين منهم إلى الملاجئ وأقفلت مطار بن غوريون ودفعت عشرات الشركات العالمية إلى إلغاء رحلاتها إليه، بعدما نجح الصاروخ اليمني بتجاوز كل طبقات الدفاع الجوي الأميركية الإسرائيلية، بسبب انتمائه إلى أجيال تقنية جديدة تفوق قدرة الدفاعات الصاروخية الأشدّ حداثة لدى أميركا و»إسرائيل» على التعامل معه، فقام نتنياهو بتكرار ما يقوم به الأميركيون منذ شهرين تقريباً، إشعال الحرائق وقتل المدنيين وتدمير موانئ ومحطات كهرباء وبنى تحتية، لكن مع المعرفة المسبقة بأن قدرة اليمن على مواصلة الاستهداف لن تتأثر، وأن البحر الأحمر لن يفتح أمام الملاحة المحظورة يمنياً، وأن المكابرة لن تفيد في منع المسار اليمني من بلوغ أهدافه بفرض تداعيات ترفع منسوب الضغط لوقف الحرب على غزة كطريق وحيد لفتح البحر الأحمر ورفع كابوس اليمن عن كاهل أميركا و»إسرائيل».
هذا النوع من الغارات المتوحشة التي تقوم الطائرات الأميركية والإسرائيلية بتنظيمه بالعشرات يومياً على اليمن واليمنيين، نجح في لبنان في خلق ظروف غير مناسبة لمواصلة المقاومة خيارها الأصليّ بجبهة إسناد غزة، وربما يلتبس الأمر على نتنياهو هنا، بسبب الفوارق الجوهرية بين الحالتين، والفارق الأول هو أن ما لدى واشنطن وتل أبيب من قدرة استخبارية بهدف بناء بنك أهداف فعّال في اليمن لا يشبه إطلاقاً ما كان في لبنان بعد قرابة نصف قرن من تسخير القدرات الأميركية والإسرائيلية لبناء هذه المنظومة الاستخبارية والإعداد لحزمات استهداف نوعية كالتي أصابت المقاومة في لبنان، لكن وفي لبنان ربما يتجاهل نتنياهو أنها لم تصب إرادة المقاومة بالاستمرار ولا بإفشال محاولات جيش الاحتلال تحقيق أي تقدم برّي أو إضعاف قدرة المقاومة على إسقاط عشرات ومئات الصواريخ المتعددة الأحجام في يوم واحد على عمق الكيان وصولاً إلى تل أبيب، كما حدث يوم 24-11-2024 قبيل وقف إطلاق النار بيومين، بحيث كانت الخاصرة الرخوة للمقاومة سياسية ومصدرها التركيبة الشعبية والطائفية والسياسية اللبنانية، التي استشعرت خطر تمدّد الاستهداف الى خارج البيئة التقليدية للمقاومة وكانت الدافع الأهم لقبول المقاومة بإنهاء مساهمتها في جبهة الإسناد، بينما في اليمن إضافة الى الاعتراف الأميركي الإسرائيلي بصعوبة تكوين بنك اهداف يؤثر على قدرة اليمن، ثمة فرق جوهري في البيئة الشعبية والسياسية المحيطة بالقرار اليمني، حيث لفلسطين مكانة استثنائية في الوجدان اليمني تظهرها سنوات وعقود من الحضور اليمني في الميادين في كل مناسبة تخصّ فلسطين، والبيعة التي تهتف لها حناجر الذي يجتمعون كل جمعة بالملايين لمواصلة إسناد غزة.
الإرادة اليمنية لن تتأثر والحسابات السياسية الداخلية لن تفرض حسابات تنهي دور جبهة الإسناد اليمنية، والغارات لن تصيب قدرة اليمن على مواصلة الاستهداف. هذا يعني أن ما يفعله التصعيد هو أن يترجم اليمن معادلته بالرد على التصعيد بالتصعيد. وهذا معناه مزيد من الصواريخ اليمنية تصل إلى مطار بن غوريون وربما الى ميناء حيفا وربما إلى مفاعل ديمونا، ولا مانع من استهداف منصات الغاز والنفط ومحطات الكهرباء والقطارات وتحلية المياه، ما يعني امتلاك اليمن مفاتيح تحريك بيئة إسرائيلية داخلية ضاغطة لصالح وقف الحرب، وتزخيم حالة الاحتجاج الراهنة بضم مئات الآلاف إليها تباعاً، فيما تعجز «إسرائيل» عن استنهاض ضغط داخلي يمني مشابه لما نجحت بأحداث في لبنان وعبرت عنه القوى السياسية التي تتشكل منها الدولة اللبنانية، بحيث يصبح ما ينتج عن التصعيد سياسياً هو تعزيز الاتجاه الذي يريد اليمن بلوغه وبعكس ما يرغب نتنياهو.
هنا يطرح السؤال عما إذا كان التصعيد الإسرائيلي على اليمن هو طريق معبّد نحو استهداف إيران إسرائيلياً، لإصابة عدة عصافير بحجر واحد، بحيث يخدم مناخ التصعيد تشكيل لوبي ضاغط داخل الإرادة الأميركية لصالح ترجيح كفة الحرب مع إيران ويضعف زخم الحراك التفاوضي، ويكفي نتنياهو أن تكون واشنطن داعمة لفكرة الحرب التي يرغب القيام بضربتها الأولى واستدراج واشنطن للتورط في سائر فصولها، بحيث تجد واشنطن أنها تنتقل من المشاركة باتهام إيران بالوقوف وراء اليمن وما يقوم به ما يبرّر استهدافها ولاحقاً يستدعي انخراط أميركا بحماية «إسرائيل» من ردّ إيراني حتمي، وتدريجياً الانزلاق إلى الحرب التي يخطط لها نتنياهو منذ زمن، وهذا السيناريو الذي لا ترغب به واشنطن، وهي الساعية لإنهاء النزاع مع إيران تفاوضياً بجدول أعمال لا يناسب نتنياهو. وهنا السؤال الأميركي الصعب، مقابل شكوك إيرانية ويمنية بجدية السعي الأميركي لتفادي سيناريو سوداوي يشعل المنطقة ويعرض كل القواعد والأساطيل والمصالح الأميركية للخطر، ويضع سوق الطاقة أمام تحديات كبرى وربما يدفع بإيران مع أول استهداف أميركي لمنشآتها النووية إلى عبور العتبة النووية العسكرية.