Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر January 10, 2025
A A A
قراءة في خطاب القَسَم
الكاتب: ناصر قنديل

 

كتب ناصر قنديل في “البناء”

ربما يكون خطاب القَسَم للرئيس العماد جوزف عون، أول خطاب رئاسيّ ينطلق من توصيف متطابق مع روحيّة اتفاق الطائف لمهمة رئيس الجمهورية، الذي بقيت تطلعات الرؤساء المتعاقبين بعد الطائف، سواء مَن كانت شخصيته وظروف وصوله إلى الرئاسة وحجم الدعم الداخلي والخارجي الذي يحظى به، تؤهله للتطلع إلى محاكاة دور رئيس الجمهورية قبل الطائف، أو ممن لا يملك ما يؤهله لهذه المحاكاة، لأن نظرية الرئيس القويّ بقيت هاجساً عند الذين تعاقبوا على الرئاسة، في مخاطبة بيئة شعبويّة تتم تغذيتها بعصبية طائفية توحي بأن هذا الرئيس سوف يُعيد للرئاسة بالممارسة ما خسرتها في النصوص، باعتبارها رمز الحضور السياسي للمسيحيين، بكونها تمثل أعلى منصب في الدولة وهي مخصّصة للطائفة المسيحية. وقد تكرّر حضور هذا الهاجس في زمن الدور السوري أو بعد انتهاء هذا الدور، وجاء خطاب القَسَم هذه المرّة محدداً ودقيقاً في توصيف دور الرئيس بصفته، حَكَماً عادلاً بين المؤسسات، وهي السلطات الدستورية التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي يتعهّد الرئيس برعاية تعاونها واستقلالها، والعمل مع الحكومة المقبلة على إعداد مشروع قانون لضمان استقلال السلطة القضائية باعتبارها ضلعاً من أضلاع مثلث السلطات المستقلة، كما نصّ على ذلك اتفاق الطائف دون أن يتحوّل هذا النص الى حقيقة قانونية.

في خطاب القَسَم لغة متواضعة لجهة التعهدات، بحيث إن العهد الشخصي للرئيس يتحوّل إلى تأكيد على حق الدولة في مكان، والتأكيد على الحق مختلف عن التعهّد بتحويله إلى سياسة، والسياسة حيث وردت كانت مرفقة بعبارة العمل مع الحكومة، أو الدعوة إلى مناقشة. ففي الخطاب تأكيد على حق الدولة باحتكار السلاح. وهذا التأكيد تترجمه سياسة مضمونها الدعوة لمناقشة سياسة دفاعيّة متكاملة، وفي الخطاب تمسّك باستقلالية القضاء لكن من خلال العمل مع الحكومة على إقرار مشروع قانون لهذا الغرض. وفي الخطاب إيمان بإعادة هيكلة الإدارة العامة لكن من خلال الربط بالعهد مع المجلس النيابي والحكومة. وفي الخطاب رؤية لتنظيم العلاقة مع سورية وأولوية لملف عودة النازحين، لكن الربط فوريّ بمعادلة السعي مع الحكومة المقبلة والمجلس النيابي الكريم إلى وضع آلية واضحة قابلة للتنفيذ الفوري تعيدهم إلى وطنهم.

في خطاب القَسَم تطلعات إصلاحيّة واقعيّة ومدروسة، تأخذ بالاعتبار الانفتاح على سقوف جديدة، لكنها تبقي التفصيل للحوار الوطني ودور الحكومة ومجلس النواب، ولذلك لم يغفل ولم يفصل الخطاب في آن واحد، لم يغفل الحاجة “لتطوير قوانين الانتخابات بما يعزّز فرص تداول السلطة والتمثيل الصحيح والشفافية والمحاسبة”، و”أن أعمل على إقرار مشروع قانون اللامركزية الإدارية الموسّعة بما يخفف من معاناة المواطنين ويعزز الإنماء المستدام والشامل”، لكنه لم يفصل ويتبنّ تصوراً محدداً لملفي قانون الانتخاب واللامركزية، ومثلها المداورة في وظائف الفئة الأولى، كترجمة للمادة 95 من الدستور لجهة عدم تخصيص طائفة بمنصب، ومثلها إيلاء الاهتمام بالضمان الاجتماعي والمدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية.

في الشأن الوطنيّ الذي توزّع على ملفات حساسة تناولها بعناية، ملف الاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات الإسرائيلية، وملف المخيمات الفلسطينيّة وملف النزوح السوريّ، حيث تجنب خطاب القَسَم تبنّي أي خطاب يلاقي ما تنتظره الفئات الداخلية والخارجية المتقابلة، فهو في شأن الاحتلال وسلاح المقاومة ليس خطاب المقاومة، لكنه ليس خطاب أعداء المقاومة والمتربّصين بها. وهو في ملف المخيمات الفلسطينية يتبنّى بسط سلطة الدولة لكنّه متمسك بحماية الكرامة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين وحق العودة، وفي ملف النزوح يدعو لخطط عاجلة تضمن عودتهم لكن بعيداً عن الروح العنصرية.

في القضية الأشدّ حساسية التي تمثلها مسألة التحرير والمواجهة مع الاعتداءات الإسرائيلية وسلاح المقاومة، نجح الخطاب بالابتعاد عن القوالب الجاهزة، معتمداً منهجيّة كان يبشّر بها الرئيس الراحل سليم الحص تقوم على تحديد القضيّة وتوصيف المشكلة على قاعدة عدم الذهاب للتخلّي عن القضيّة بداعي السعي لحل المشكلة، وكل سعي لقضية تنتج عنه مشكلة أو أكثر. والمهم هو أن نعالج المشاكل دون أن ننال من القضية ونسيء إليها، ودون أن يؤدي إيماننا بالقضية والتمسك بها إلى تجاهل المشاكل التي تنتج عن ذلك. والقضية هنا هي حماية لبنان وتحرير أرضه والتصدّي للاعتداءات على سيادته. والمشكلة هي المساس بحق الدولة في احتكار السلاح، حيث تتولى المقاومة التحرير والتصدّي للاعتداءات، فيقوم الخطاب على معادلة تحمّل الدولة مسؤوليّة التحرير وخوض الحروب والتصدّي للاعتداءات، ولهذا الغرض يدعو للاستثمار في الجيش، ويدعو بالتوازي لمناقشة استراتيجية للأمن الوطني من ضمنها سياسة دفاعيّة، وتعالوا نكتشف واقعياً كيف ننجح بالسيطرة على المشكلة وتجزئة الحلول لها ووضع خطط مرحليّة لبلوغها، دون أن تسقط القضية، فتبقى القضية أن نحرّر الأرض ونواجه الاعتداءات ونحن نؤكد على حق الدولة باحتكار السلاح، وما بينهما نستثمر على الجيش ونجد الحلول السياديّة لتوظيف كل سلاح، إلى أن نصل إلى مرحلة لا تبقى فيها حاجة لسلاح آخر.