Beirut weather 12.41 ° C
تاريخ النشر December 7, 2024
A A A
من يحمي الأبنية التراثية؟
الكاتب: لينا إسماعيل

 

كتبت لينا إسماعيل في “النهار”

انتهت الحرب، وخلّف دمارها آثاراً عميقة في كل القطاعات، مهدداً مدينة بعلبك بمعالمها التاريخية الحضارية، إذ تسبّب مباشرة أو مداورة بخسارة أربعة منازل تراثية جراء الغارات الجوية، بحيث كانت ثلاثة منها هدفاً مباشراً للقصف، بينما أقدم مالك عقار منزل تراثي على هدمه مستغلاً ظروف العدوان، إضافة الى تدمير الطيران الحربي السور التاريخي عند أطراف ثكنة غورو التي يتجاوز عمرها قرناً.

 

لكن السؤال الأكثر إلحاحاً الذي يبرز هو: ما هي الخطط والإستراتيجيات التي ستتبناها الإدارة المحلية، سواء على صعيد البلديات أو مديرية الآثار والتنظيم المدني، من أجل تنفيذ مشروع حيوي لترميم البيوت التراثية، قبل أن تتحول هذه الكنوز مجرد ذكريات باهتة في الذاكرة؟

من المعروف أن مديرية الآثار تمتلك تشريعاً خاصاً في هذا الشأن، وقد عملت بجد على هذا الموضوع، مستندة إلى تجاربها وخططها المدروسة.

 

 

لكن ماذا تستطيع مديرية التنظيم المدني أن تفعل، وهي تواجه تحديات جمة نتيجة المشاكل المتراكمة التي تعاني منها بلدية بعلبك، وتحديداً ما يتعلق بالانتهاكات المتكررة في أعمال البناء، بحيث أن هذه المخالفات باتت كالأمر المسلّم به؟

 

ومع ذلك، هل من خطة بديلة يمكن أن تساهم في إعادة ترميم هذه البيوت، بحيث تكون لمصلحة مديرية الآثار، وتدعم الحفاظ على المواقع الأثرية والتراثية، خصوصاً أن سكان منطقة بعلبك لم يكونوا في الماضي يولون اهتماماً كافياً لموروثهم الثقافي، إذ كان بعضهم يترقب من الدولة أن تتدخل لإعادة بناء ما تضرر؟

وكيف يمكن للدولة أن تعيد بناء ما تهدم من تراث أوترميمه، وهو أمر يخص أصحاب هذه المنازل، بينما بعضهم الآخر لا يهمه سوى تشييد العمارات الحديثة التي تدر مزيداً من الأموال، متجاهلاً ما تحمله هذه المدينة من قيمة تاريخية وتراثية عميقة؟

حماية الأبنية التراثية
يشعر المهندس المعماري يوسف يقظان حيدر، أحد أبناء المدينة، بقلق عميق إزاء احتمال تكرار تجربة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية وعدوان 2006، عندما تضررت قرى وبلدات عدة وفقدت هويتها التراثية بسبب البناء غير المدروس.

ويقول حيدر لـ”النهار”: “إن الطلب المتزايد على العودة يثير القلق من أن تُبنى هذه المناطق بطريقة عشوائية، مما يؤدي إلى فقدان طابعها التراثي ومعانيها الكاملة”.

في هذا السياق، يؤكد التواصل مع الجهات المعنية بالأونيسكو، والتعاون مع مهندسين متخصصين لدراسة السبل المناسبة لعملية إعادة الإعمار، ويلفت الى أن “من الضروري أن تبذل السلطة جهداً ضمن تخطيط مدروس يتوافق مع حاجات سكان المدينة، إذ يجب تحقيق توازن دقيق بين إعادة الإعمار المستدام والحياة اليومية للناس. وتجربة ترميم بيروت نموذج واضح للنجاح، بحيث اتُخذت قرارات صحيحة، ونشهد الآن عملية الترميم بعد أربع سنوات، لأن الأمور أجريت كما ينبغي”.

ويشير الى “تشكيل لجنة مختصة في وزارة الثقافة لتقويم الوضع، إضافة إلى تقديم اقتراح قانون لحماية التراث يضمن الحفاظ على هذه المنازل، بما ينهي الفوضى التي كانت سائدة سابقاً، ويسمح بنقل الملكية، ويعاقب جزائياً من يهدم منزلاً مصنفاً أو مدرجاً على قائمة التراث”.

 

ويشدد على “أهمية مشروع الإرث الثقافي في حماية حقوق هذه البيوت في كل المدن من بعلبك إلى صور إلى جبيل. لذا، من الضروري وضع مخطط شامل يراعي جميع المباني الحالية وفقاً لقيمتها التاريخية”.

ويرى “أن من الضروري أن يكون هناك مخطط توجيهي شامل لبعلبك يأخذ في الاعتبار كل مبنى أو جزءاً منه محدداً أهميته وطرق حمايته. كذلك يجب الحفاظ على النسيج العمراني بشكل كامل أو جزئي. فمباني المطرانية في ساحة المطران والنسيج المحيط بها، إضافة إلى فندق بالميرا، تعتبر مباني تراثية. لذلك، لا يمكن لصاحب الفندق إجراء تعديلات عليه إلا وفق معايير محددة، لأن هناك عناصر ذات قيمة ثقافية للمدينة يجب المحافظة عليها ضمن شروط معينة”.
ويذكر “أن في لبنان قانوناً للآثار، لكن لا يوجد قانون خاص بالمباني التراثية”.

 

وفي ما يتعلق بترميم ثكنة غورو، أسفرت الغارة الإسرائيلية عن تدمير 30 متراً من سورها التاريخي، مما يستدعي إجراء عملية ترميم عاجلة تعيد إلى هذا المعلم الأثري رونقه وجماله القديم. وفي هذا السياق، يشدد على “أن من المفترض أن يجري ذلك تحت إشراف مديرية الآثار، التي تلتزم القانون وتطبق الأصول الفنية المتخصصة”، ويعتبر “أن على السكان إخلاء المبنى واستخدامه للمصلحة العامة بدلاً من السكن الفردي”.

وعن أضرار القلعة التاريخية، لا يستبعد “أن تكون قد تأثرت، لكن لا نستطيع أن نحدد ذلك بالعين المجردة، فهي تحتاج الى بحث دقيق جداً يجب أن يبدأ بالعمل بالمراقبة وتركيب معدات معينة”.

دور التنظيم المدني
ويوضح رئيس دائرة التنظيم المدني في محافظة بعلبك – الهرمل سابقاً المهندس جهاد حيدر ان المديرية العامة للتنظيم المدني أعدت عام 2009، استنادا الى دراسة مجلس الانماء والاعمار، المخطط التوجيهي لمدينة بعلبك وأجريت عليه تعديلات لاحقة. وحرص المخطط الحالي على حماية المباني التراثية وسط المدينة، وصنّف حيزاً خاصا للنسيج العمراني التراثي، لكن هذا التصنيف بقي حبراً على ورق! أصبحنا نرى فوضى عمرانية تمثلت بهدم عدد كبير من المباني التراثية واقامة مباني اسمنتية عشوائية مكانها”.

مجلس الانماء والاعمار

ويشير الى أن المدينة التاريخية “خضعت لدراسة تفصيلية من مجلس الانماء والاعمار قبل عام 2009 بحيث جرت توسعتها المدينة لتشمل محور رأس العين السياحي وبحيرة البياضة، من ضمن مشروع الارث الثقافي. وتجدر الاشارة في هذا الصدد، الى أن تجاهل السور العربي ضمن هذه الدراسة وعدم إدراجه على الخرائط يشكل انكاراً واضحاً لهوية المدينة التاريخية، مع الاشارة الى الأضرار التي اصابته جراء القصف الأخير على ثكنة غورو”.

 

ويذكّر بـ”أن بعلبك هي “ملك التاريخ” وليست ملكا” لأشخاص أو لجماعات، وهي تتعرض اليوم للإبادة الثقافية والاجتماعية التي توثّق الهوية والانتماء الأصيل والناموس والقيم المتمثلة بإرثنا الثقافي. فالمباني التراثية في بعلبك ومن ضمنها الكنائس والمساجد والمساكن، جمعت بين العائلات والطوائف في نسيج اجتماعي رسم لوحة موزاييك قلّ نظيرها”.
ويورد “على سبيل المثال لا الحصر أن قسماً كبيراً منها هدم، والقسم الباقي في حاجة الى ترميم مثل بيوت آل سماحة والمطران نجيم وآل كرباج، وبيت شهلا لوكندة المطران، ومبنى مصطفى الرفاعي (مركز الايتام)، وبيوت جودت حیدر، عبد الغني الرفاعي، توفيق الرفاعي، ابراهيم حيدر، سعيد حيدر وأوتيل بالميرا.
في حين هدمت فيلا الهراوي جزئياً لبناء سنتر تجاري، ودمر العدوان الاسرائيلي أخيراً منزل زهیر حیدر ومبنى المنشية، فيما كان الطيران الاسرائيلي دمر اوتيل الخوام عام 1996”.

إن التحدي الذي تواجهه بعلبك في مرحلة ما بعد الحرب، سوف يكون إمتحاناً مصيرياً ينبغي أن تثبت فيه جدارتها في رعاية ما تزخر من إرث حضاري، عبر حملة مجتمعية في اتجاه وضع تشريعات تضمن حماية إرثها الثقافي، وإزالة التعديات وإبراز مواقعها الأثرية ليس داخل حرم المعابد التاريخية فحسب بل في كل أرجاء المدينة، مع مراعاة عدم تدخل السياسة وأصحاب المصالح الصغيرة الذي يضعفها ويغير وجهها المشرق.