Beirut weather 25.41 ° C
تاريخ النشر October 19, 2024
A A A
يحيى السّنوار: الأيقونة والأسطورة والقضيّة والهويّة!
الكاتب: حسن الدر

كتب حسن الدر في “اللواء”:

لا حاجة للخيال هنا، ولا ضرورة لاستحضار عناصر الأسطورة، المشهد الحقيقي الّذي بثّه جيش العدو الإسرائيلي يفوق الخيال في قصص الأبطال، ويفوق معاني الشّهامة لدى فرسان القرون الوسطى، ولو اجتمع صنّاع السّينما لكتابة نهاية بطل ملحميّ لما تفتّق خيالهم أو أنتجت أدواتهم أفضل وأصدق من مشهد شهادة يحيى السّنوار.
48 ثانية كانت كافية لاختصار فلسطين القضيّة والهويّة: منزل خراب، غبار ودماء ودمار، أرائك مبعثرة، وإضاءة خافتة، في الرّكن يجلس يحيى السّنوار، يتّكئ بيده الجريحة على حافّة أريكة، يتفحّص درون «كواد كابتر» وتتفحّصه، لم تزغ عيناه ولم يفكّ لثام الكوفيّة الفلسطينيّة، انتظر حتفه دون عرضه وشرفه وأرضه، وقد أتمّ كلّ شروط الوفاء والفداء والإباء، ثمّ ألقى عصاه، وانقطع البثّ..

في الصّور المرفقة بعد التّعرّف على هويّته، كانت عيناه تنظران نحو السّماء، كأنّه يناجي لله: «أرضيت يا رب»، وكأنّ فمه المفتوح يصرخ في ضمائر السّاكتين والمتخاذلين: «ألم تكفكم دماؤنا لكي تنتفضوا لكرامة لله والإنسان في الأرض؟!».
في الصّورة أيضاً قنبلة يدويّة خبّأها في حضنه، وحمّالة جعبته تشدّ كتفه، وبطن خاوية من أثر التّجويع والحصار، فالسّنوار لم يعش مترفاً ولم يمت متخماً باستغلال أموال النّاس، بل قُتل ومات شهيداً في ساحة الحرب، وكلّ كلام بعد ذلك لغو..
ولو أردنا تعريف فلسطين القضيّة والهويّة بكلمتين لما وجدنا تعريفاً جامعاً مانعاً أدقّ وأوضح من «يحيى السّنوار»، فهو لاجئ في أرضه، أسير في وطنه، نازح في المخيّمات، مقاتل على الجبهات، قائد سياسيّ ثمّ مشتبك شهيد!

هو ابن مجدل عسقلان الّذي ولد في مخيم خان يونس، وهو الأسير المحرّر، والمجاهد المطارد والقائد المقاتل والعنيد المشتبك حتّى الشّهادة، وهو الّذي أحيا بمقاومته القضيّة الّتي أريد لها أن تموت على سرير التّفاوض العقيم فرفعها بشهادته وشهادة عشرات الآلاف في غزّة إلى مستوى قضايا الإنسانيّة الخالدة.
منذ السّابع من أكتوبر 2023 سال حبر كثير وقيل كلام أكثر حول يحيى السّنوار وعمليّة «طوفان الأقصى» وما خلّفته من آثار مادّيّة كارثيّة على غزّة، وما ستتركه من آثار سياسيّة على منطقة الشّرق الأوسط لعقود قادمة.
وانقسم النّاس بين من اعتبره فدائيًّا عظيماً استطاع تغيير وجهة الصّراع وبين من اعتبره مغامراً مجنوناً قضى على آخر أمل بحياة الحدّ الأدنى الممكنة لما تبقّى من فلسطينيين على أرض فلسطين التاريخيّة.

والاختلاف في الرّأي هنا يفسد للودّ وللعقيدة وللحقّ قضايا.
ولم يسلم السّنوار من لوم الأقربين، فحلفاؤه في محور المقاومة لاموه على تفرّده في قرار فتح الحرب من دون استشارتهم والتّنسيق معهم، وبعضهم، في المجالس الخاصّة، اعتبر بأنّه ورّط المحور في حرب لم يستعدّ لها وفي توقيت دوليّ تتحرّك فيه خرائط النّفوذ والهيمنة، واللّعب على أرض متحرّكة قد يودي بالانزلاق إلى الهاوية إذا كانت الخطوات غير محسوبة، وبرغم ذلك، فُتحت جبهات الإسناد لغزّة، بحدّها الأدنى، وتلك قضيّة بحث سيطول الحديث فيها لاحقاً!أمّا خصوم السّنوار فلم يتركوا تهمة إلّا وألصقوها به وصلت حدّ التّخوين، وبأنّه منح «نتنياهو» الذّريعة لإبادة قطاع غزّة وطي ملف القضية الفلسطينية وصولاً إلى تغيير الشّرق الأوسط لصالح «إسرائيل» كقوّة حاكمة ومتحكّمة بشعوب المنطقة ومقدّراتها.
وفي السّياق اتّهموه بتعريض النّاس للقتل والجرح والتّشريد والتّجويع، بينما اختبأ هو داخل الأنفاق.
وقالوا بأنّه خرج من غزّة إلى سيناء ثمّ لبنان وربّما إيران ليترك النّاس فرائس بين أنياب الوحش الصّهيونيّ المجرم.
وقالوا اتّخذ الأسرى دروعاً بشريّة ليحمي نفسه من غارات القتل الصّهيونيّة.
قالوا فيه كلّ شيء سيئ ليبرّروا خنوعهم ويخفوا عورة سكوتهم ووقوفهم إلى جانب العدو بأفواههم وألسنتهم.
وبعضهم قال بأنّه دمية صغيرة في مشروع إيراني كبير، لكنّ الطّوفان وأحرج إيران.
وقال آخرون بأنّ نتنياهو سهّل له حكم حماس وغزّة وأغرقه بالأموال، لكنّه أذلّ نتنياهو وأهان الكيان في ذات الطّوفان.
قالوا وسيقولون، لكنّ كلّ عاقل اتّفق بأنّ السّنوار صار أيقونة وأسطورة وعلامة فارقة في تاريخ الصّراع بين الحقّ والباطل فوق سطح هذا الكوكب البائس!
وعلى هذا الكوكب البائس والمظلم بأضواء التّطوّر التّكنولوجي والانحطاط الأخلاقي ثمّة فئة قليلة متمسّكة بحبال السّماء.
ثمّة صراع محتدم بين قوّة الحقّ وحقّ القوّة.
«إسرائيل» تمثّل حقّ القوّة بالسّيطرة والهيمنة والتّسلّط والتّفوّق مدعومة من أميركا ومَن معها في الغرب المادّي المتوحّش والخالي من أدنى موجبات الشّعور الإنساني والأخلاقي والقيمي!والثّلّة الباقية على حافّة الكوكب المظلم متمسّكة بقوّة الحقّ ومنطق العدل وثقافة المساواة!
فمن ينتصر؟
هي حرب بين لله وشياطين الأرض، يخوضها عن الإله ما تبقّى من المؤمنين بقيَم السّماء على الأرض، ويحيى السّنوار جنديّ شجاع في جيش لله، وقد أنصفه لله، وسينصفه التّاريخ والأجيال القادمة.
رحل السّنوار عن سابق تصميم على حرب العدو وعن سابق حبّ لفلسطين.
رحل عزيزاً أبيًّا ثابتاً قويًّا مقبلاً غير مدبر مشتبكاً غير خائف.
رحل السّنوار لتبقى فلسطين قضيّة حقّ وهويّة ثورة.
رحل السّنوار لتبقى للحقّ كلمة، وللحقيقة هويّة.