Beirut weather 13.54 ° C
تاريخ النشر May 24, 2024
A A A
بيت حانون نموذجاً للاستنزاف: المقاومة تُنهك العدو
الكاتب: يوسف فارس

كتب يوسف فارس في جريدة “الأخبار”

تجسّد مدينة بيت حانون في أقصى شمال قطاع غزة، النموذج الذي سيفاجئ جيش الاحتلال في كل منطقة يُنهي عملياته البرية فيها، ثم يعود بعد أسابيع أو أشهر إلى اقتحامها مجدداً، من دون تمهيد ناري، على اعتبار أنه استطاع القضاء على كل التهديدات الأمنية فيها، إذ وزّع «الإعلام العسكري التابع لكتائب القسام»، مساء أمس، مشاهد من كمين مركّب تمّ تنفيذه في المدينة، فجر الثلاثاء الماضي، ووصفه الإعلام العبري يومها بـ«الحدث الصعب»، وأقر بمقتل ثلاثة جنود وإصابة العشرات خلاله. في المقطع المصوّر، تستدرج المقاومة قوة إسرائيلية مؤلّلة إلى مسرح الكمين، فيتقدم رتل من الآليات، ولكنّ المقاومين يمتنعون عن التعرّض له، فتمرّ الآليات بسلام، ثم تتقدّم مجموعة من الجنود، فتنفجر فيهم عبوة رعدية مضادة للأفراد. بعد ذلك، يواصل المقاومون كمونهم، فتتقدّم مجموعة من الآليات، ويصمت السلاح مجدداً، ثم تأتي قوة النجدة لإجلاء الجرحى والمصابين، فتنفجر عبوة «شواظ» بجمع من الجنود. ينقشع الظلام، وتتقدّم قوة أخرى مزوّدة بأكياس لجمع الأشلاء ومتعلّقات الجنود، فتبادر وحدة القناصة في «كتائب القسام» إلى قنص ثلاثة جنود وإصابتهم بجروح قاتلة، ثم يعترف العدو بمقتل الثلاثة. هكذا، تُظهر المقاومة أن تقادم عمر المعركة، يمنحها قدراً أكبر من الثقة والقدرة على العمل بأعصاب باردة، إذ لم يعد مهماً الاشتباك فقط، بل صار ضرورياً إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية. لذا، سمحت المقاومة للآليات بأن تمر بسلام، وكانت النيران من نصيب القوة الراجلة. وعلى إثر الحدث، سحب العدو كل قواته البرية من محور التقدّم هناك.
المشهد الميداني في مخيم جباليا، لا يمكن أن يخرج عما كانت عليه الحال في بيت حانون
لماذا بيت حانون نموذجاً؟ لأن البلدة الحدودية التي كانت من أولى المناطق التي يدخلها الاحتلال في عمليته البرية، نالت النصيب الأكبر من النار، فتعرّضت للتهجير والتمهيد الناري المكثّف في اليوم الثاني من عملية «طوفان الأقصى». ولم ينسحب منها العدو إلا بعد أربعة أشهر متواصلة من السيطرة النارية والبرية. وقد هدم كامل الكتلة العمرانية في المدينة، وحوّلها إلى بلدة خالية من التضاريس، ممسوحة وكأنها أرض سهلية. وتحرم تلك الوقائع المقاتل من أي فرصة للتخفي والمناورة. ولكن على رغم ذلك، استطاعت المقاومة المحافظة على مخزونها البشري وعتادها القتالي، وطوّرت بشكل مستمر خططها وتكتيكاتها القتالية على نحو يحقّق المزيد من المنجزات. فبعد أشهر من الضغط الميداني المتواصل، كان ملاحظاً أن حضور مقاومي البلدة في المشهد القتالي، أخذ في التلاشي. لكن بعد عدة أسابيع فقط من انسحاب قوات الاحتلال من البلدة، صعد الأداء القتالي على نحو لافت، حيث أُطلقت عشرات الرشقات الصاروخية من البلدة، ونفّذ المقاومون عشرات الكمائن وعمليات القنص والقصف بقذائف الهاون. وقوّضت تلك المعطيات أي فرصة لكي يدّعي العدو أنه قضى على كتائب المقاومة في شمال القطاع عموماً، وفي بيت حانون خصوصاً.
المشهد الميداني في مخيم جباليا، لا يمكن أن يخرج عما كانت عليه الحال في بيت حانون، إذ لوحظ خلال اليومين الماضيين، تراجع الزخم القتالي، ثم أعلنت «كتائب القسام»، أمس، تفجير ثلاث دبابات، واستهداف القوات المتوغّلة بوابل من قذائف الهاون. وهنا يمكن أن نفترض، أن أحد عشر يوماً من القتال المتواصل، أفضت إلى استشهاد عشرات المقاومين، واستنفاد مخزون عدد من العقد القتالية، خصوصاً أن جيش العدو أعلن أنه شنّ في غضون الأيام الخمسة الأولى من العملية في جباليا، 500 عملية قصف بقذائف الدبابات ونحو 100 غارة جوية. وأمام هذا الضغط، تظهر المرونة التي تفرضها طبيعة حرب الاستنزاف الطويلة، والتي تقوم على تمرير الضغط الذي يتجاوز طاقة التعامل، والاقتصاد في الخسائر البشرية لدى المقاومة قدر المستطاع، وصولاً إلى إعادة البناء والتأهيل والهيكلة مجدداً. وهذا الأسلوب في إدارة المعركة، قد يعطي العدو مكاسب تكتيكية آنية، ما يوفّر له الفرصة لصناعة صورة انتصار جزئية، تمثّلت، أول من أمس، في زيارة قادة جيش العدو للمخيم، واستعراض حجم الدمار من خلال الصور ومقاطع الفيديو، لكنه يحرمه على المستوى الاستراتيجي البعيد، من فرصة الزعم بأنه استطاع القضاء على أيّ من كتائب المقاومة، في أي بقعة توغّل فيه للمرة العاشرة.. وليس الثانية.