Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر January 9, 2023
A A A
من المعجزة إلى الكارثة.. لا إصلاح بلا أنظمة مصرفية وقضائية تُحاكم المجرمين وتحرِّر الأموال المسجونة!
الكاتب: اللواء

مع عودة القضاة الى قصور العدل، بعد انقطاع بلغ ما يزيد عن نصف سنة كاملة، تأمل جمعيات المودعين، بصرف النظر عن التزاحم او حتى التناصر بينها بأن يتمكن اصحاب الحقوق المالية لدى المصارف العاملة من انتزاع بعض من حقوقهم في الودائع المحتجزة، من دون وجه حق، أو حتى الأموال التي هي حقوق ثابتة لهم والتي تحوّل من الوزارات والادارات من خارج نظام الرواتب، وهي إما مكملة للرواتب، أو هي تعويضات صرف او حتى منح مدرسية… إلخ.

وبمعزل عما اذا كانت المصارف بأنظمتها وتدابيرها الخارجة عن المنطق، أو النظام العام، أو حتى التجربة المصرفية والبنكية حول العالم، وحدها المسؤولة عما يمكن وصفه بالاعتداء على الحقوق، وهذا الاعتداء هو بمثابة الجريمة، إن لم يكن هو رأس الجرائم والمعاصي.
في النظم الرأسمالية، او المعروفة بالانظمة ذات الاقتصاد الحر او الليبرالي، تشكل المصارف أساس حركة رأس المال في عملية ضخ الاموال او تحويلاتها، عبر الحوالات او الشيكات، او حتى النقود والعمليات الالكترونية، وصولاً الى نظام الـATM.
ومن الناحية التاريخية، كانت المصارف اللبنانية، سواء ذات النشأة الخارجية، أو المشتركة، او المحض لبنانية، إحدى أبرز مظاهر ما اصطلح على تسميته في ستينيات القرن الماضي بالمعجزة اللبنانية Miracle Libanais.
لا حاجة للمضي قدما في الدفاع عن اهمية المصارف سواء التجارية او بنوك التسليف الصناعي والتجاري والزراعي، وإنما كانت هذه الومضة، لتشخيص الوضع الحالي للمصارف اللبنانية، عبر جمعية المصارف، ممثلة برئيسها الحالي ونوابه وسائر المسؤولين في الجمعية، بعدما أقدمت على جرم اقترفته، ذات نهار، مستفيدة من إقدام مئات، أو ألوف اللبنانيين على النزول الى الشارع، انتقاماً أو تنديداً بإضافة بضع سنتات من الدولارات على خدمة «الواتس آب» والتي عرفت لاحقاً باسم انتفاضة 17 (ت1) 2019، والتي اطلق نشطاؤها على انفسهم اسم «الثوار».
تمثل هذا الجرم بالكشف عن احتجاز ودائع المواطنين المودعين، والإقفال لأيام في الاسبوع، ثم اعلان الاضراب، منعاً لهؤلاء من المطالبة باستعادة ودائعهم، أو حتى نتف منها، لا أكثر ولا أقل.
أصيب الجسم المصرفي بآفة كبرى: لا ثقة بأصحاب المصارف أو حتى الجمعية، ومدراء الفروع المنتشرة، توقفت الفوائد، حتى القليلة، توقف العمل بنظام الشيكات، استنكفت المصارف عن نشر ميزانياتها في الصحف، أعراض مرضية طالت كل الانتظام العام.
راحت المصارف ترمي بالتبعة على الدولة التي قدمت لها القروض من اجل الانفاق على الرواتب… راحت الدولة تتحدث عن خطة تعافٍ، في صلبه دمج المصارف.. تدخل مصرف لبنان عبر تعاميم، أبقت سلطة النقد بيد الحاكم، الذي أتى من عالم المال عبر شركة «ميري لانش»، ليتحول الى «ديكتاتور نقدي» يلجأ الى القانون حيناً (قانون النقد والتسليف) والى اعتبارات تتعلق بإرضاء اصحاب المصارف أو الطبقة السياسية، حيناً آخر، ضمن ارتباط دولي، واضح المعالم، مع ما يعرف بالنظام المالي الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية عبر صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والمنظمات المالية والشركات النافذة والعابرة للقارات.
من معالم الأزمة الكبرى التي عصفت بالنظام العام في لبنان كله، أزمة الثقة بالمصارف وأصحابها، ومدرائها وحتى موظفيها… فهل يعقل أن يصبح العامل في مصرف خائفاً في صلب عمله، يشاهد الموبقات، ويخشى من اقتحامات اصحاب الودائع؟
ثمة دعاوى جاهزة او بعضها مقدم الى المحاكم، وثمة حركة مطالبات في الواجهة. الأزمة الآن لا تتعلق فقط بانتخاب رئيس او تجديد او سلب الثقة بالطبقة السياسية وأحزابها وكتلها النيابية، إنما الأزمة تتعلق بالنظام المصرفي، أو النسق المصرفي اللبناني، الذي أقدم على أشد الموبقات شراً، احتجاز الودائع، والاستعداد إما للاخفاء عن الجريمة او الجرائم وإما لتبرئة الساحات المالية والمصرفية وإلقاء التبعة على الحكومات او وزارة المالية او الطبقة السياسية.
الى هنا، من الجرائم الكبرى ان لا ينساق صاحب مصرف واحد الى المحاكمة، من الموبقات الخطيرة ان لا يقدم النظام المصرفي على اصلاح نفسه، والمبادرة الى استعادة الثقة، بخطوات ملموسة، تعيد سالف العز الى العمل المصرفي ونجاحاته.

الجرائم المتمادية عبر تعميق الهوة بين المودع والموطّن وأصحاب الحقوق في المصارف، يتحملها أطراف ثلاثة (مع العلم ان الطبقة السياسية هي على رأس الجرائم المقترفة) وهم: مصرف لبنان صاحب السلطة العليا في إدارة النقد وحماية الحقوق، بما في ذلك حقوق المصارف، وجمعية المصارف التي تحولت الى «عصابة» (تبحث فقط في الافلات من العقاب)، ووزارة المال، وبصرف النظر عن وزيرها (لأي جهة انتمى او طائفة)، وحاكم المركزي، والمجلس المركزي ومفوض الحكومة.
هذه الأطراف الثلاثة، ممثلة بأجسامها المعنوية أو اشخاصها الطبيعيين، وهم في الوقت الراهن: رياض سلامة، يوسف خليل، وسليم صفير ونائبه النعماني، هم معنيون بما يرتكب من جرائم مالية متمادية.
ثمة سؤال يحضرني: كيف تطلب وزارة المال توطين الرواتب ضمن حسابات محددة سلفاً مع ما يسمى الـIban، ويرسل الى الوزارات او المؤسسات العامة أو الادارات، ثم تأتي تعليمات بفتح حسابات جديدة، بتعليمات من وزارة المال او المصرف المركزي، تحوّل إليها الحسابات كيفياً، فيصبح لكل ذي حساب شرعي قبل 17 (ت1) 2019، ثلاثة حسابات، ضمن ارقام متسلسلة، واحد للرواتب وآخر لصيرفة، وثالث للمساعدات.
وفي حساب المساعدات تتحول اموالها الى رهائن على نحو ما حدث للودائع… فيتعذر على اصحابها سحبها او التصرف بها، عبر طرائق تزيد من «ديكتاتورية المصرف» من صاحبه، الى الموظفين الصغار وصولاً الى أدنى العاملين في المصرف خدمة.
وهذا ما حصل فعلاً لكاتب هذه السطور، مع مصرف من المصارف الكبرى العاملة (لبنان والمهجر) عندما وضع المعنيون بالمصرف تحويلاً مالياً ضمن الجدول 168 الى الحساب الموطن، فإذا بالقيمين على المصرف، يضعونه في حساب المساعدات، وبالتالي يتعذر السحب منه، إلا ضمن معاملة جد محصورة، وخاصة؟!
لا يبدأ إصلاح الوضع المخيف بانتخاب رئيس، ولا حكومة تدير مصالح الطبقة الحاكمة، بل عبر انتفاضة مصرفية، تعيد بناء الثقة بمصارف لبنان، التي كان لها دور كبير في بناء المعجزة اللبنانية.
الإصلاح يبدأ من المصارف، عبر مراجعة مكشوفة، ومحاسبة شفافة، لا تكتفي بالتدقيق في حسابات المركزي، أو ملاحقة سلامة من قبل الاتحاد الأوروبي، بل ملاحقة مجرمي المال والمصارف قبل أي أمر آخر.