Beirut weather 15.77 ° C
تاريخ النشر November 23, 2018
A A A
فخر الدين الكبير: شخصيّة مؤسِّسة للذّاتية والكيان اللبنانيَّيْن
الكاتب: مجد بو مجاهد - النهار

يشكّل فخر الدين الثاني المعني الكبير توأم دولة لبنان الحديثة التي نالت استقلالها عام 1943، رغم أن كلاًّ منهما ولد في زمن. فجسّدت سيرة الأمير المعني الذاتية ومجريات حكمه مفهوم الاستقلال، من دون حاجة الى بروتوكولات رمزية. كانت سيرة فخر الدين وحدها كافية لصياغة بروتوكول وطني وصناعة كتاب تاريخ سطّر أحداث حقبة مشرقة شهدها لبنان، وأضحت استعادة المسيرة نفسها رمز الدولة المستقلة وشعارها. ويستوجب البحث في خصال الأمير فخر الدين الشّخصية، التوقّف عند واقعة نيله لقب “سلطان البرّ” سنة 1624، وإطلاق لقب “أمير عربستان” (أمير بلاد العرب) عليه. لم يستسِغ الأمير المعني الألقاب الرّنانة، بقدر ما كان يفضّل أن يلقّب بـ”أمير جبل لبنان وصيدا الجليل”، العزيز على نفسه. وتكلّلت حقبة فخر الدين الكبير بإعداده جيشا وطنياً قويّاً، تألّف من مختلف الطوائف اللبنانية ومثّل جميع المناطق، متّخذاً من المساواة بين الجنود أساساً للحكم. وهو جهّزهم بأفضل الأسلحة والذخائر والعتاد، وبلغ عديدهم ما يقارب أربعين ألف جنديّ يتقاضون رواتب. وكان باستطاعة “ابن معن” أن يستنفر سبعين ألفاً إذا ما قرعت الحرب أبوابها. وساد الأمن في عهده، فأنشأ أبراج المراقبة والخانات المحصّنة، وهذا ما أسهم في هجرة الأجانب ورغبتهم الاستقرار في لبنان.

ويعتبر التنظيم الإداري للإمارة حينذاك، من أبرز المظاهر الدالّة على كيان دولة، فوضع سجلات بأسماء اللبنانيين الذكور القادرين على حمل السلاح، وسجلات بعدد الأشجار المثمرة والمواشي في كل قرية. ولم يهتم بالبعد الطائفي في التعيينات، بل اختار الرجل المناسب في المكان المناسب لتولي المناصب السياسية والإدارية والعسكرية. وفي عهده أيضاً، أقام قناصل الدول الأوروبية في صيدا.

ويقول الدكتور المؤرّخ عصام خليفة لـ”النهار” إن “فخر الدين الثاني الكبير شخصية مؤسّسة للذّاتية والكيان اللبنانيين في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر. لم يسعَ الى الاستقلال المطلق عن الدولة العثمانية، لكنه عمل على تحقيق استقلال ذاتي موسّع في لبنان على نطاق المناطق التي التزم جمع ضرائبها للدولة العثمانية”. ويشير الى أن “أهميته تكمن في ترسيخه دعائم التفاعل الاجتماعي بين الطوائف اللبنانية. فكانت المناطق قبله لها صفة طائفية صافية نسبياً، وكان آخر خطّ للحضور المسيحي هو خط بكفيا – بيت شباب. شجّع فخر الدين معيشة المسيحيين بين الدّروز ودعم قيام المؤسّسات المختلطة، وكان جيشه يتشكّل من كلّ الطوائف، وهو شرط أساسي لا بديل عنه لقيام الدّولة اللبنانية. وعمل الأمير المعني إنمائياً عبر تحديث المشاريع واستيعاب ما يجري في الغرب من بوادر نهضة وقتذاك، واهتم بالعلم والمدارس وشجّع الإرساليات. وتشكّل مستشاروه وجهازه الإداري والعسكري من كلّ الطوائف، وعيّن سفيراً شيعياً في إيران وسفيراً مارونياً في الفاتيكان”.

ومن جهته، يلفت الدكتور في التاريخ المعاصر عماد مراد الى أن “فخر الدين الكبير هو باني فكرة لبنان الحديث. لا وثائق تبرهن أنه تحدّث عن الاستقلال، لكن العاطفة الشعبية حياله وتصرّفاته وعلاقاته الداخلية والخارجية واتخاذه من بيروت عاصمةً له، تدفع الى الاستنتاج أنه فكّر ضمنياً بالاستقلال. ويدفع تقييم مسيرته الحياتية الى الاستخلاص أنه كان يسعى الى بناء دولة مستقلة. فحارب العثمانيين ونظّم الجيش وبنى الجسور والقصور وطوّر الزراعة والصناعة وتعامل مع الخارج ووقّع معاهدات التسلح”.

ويضاف الى بناء الجيش والانصهار الطائفي الذي ساد في عهد فخر الدين، قيام الركائز الاقتصادية والتعليمية والعمرانية التي يطلبها مفهوم الدولة. فشهد لبنان نهضة تعليمية، تعاظمت بعد توالي بعثات الطلاب إلى إيطاليا الذين عادوا الى لبنان وأنشأوا المدارس، وأسّس مطبعة في دير قزحيا سنة 1610، وهي أوّل مطبعة في الشرق العربي. وساهمت سياسة فخر الدين في مجيء الإرساليات الأجنبية التي أنشأت المدارس، فضلاً عن قدوم المهندسين الايطاليين الذين ساهموا في النهضة العمرانية، فبنوا الجسور والمنازل ذات السطوح القرميدية الحمراء التي أضحت تراثاً لبنانياً، وبنيت المنازل الزجاجية والقناطر، وهي فنون عمرانية لا تزال تستخدم اليوم. ووفد الفلاحون الايطاليون الذين درّبوا اللبنانيين على أساليب زراعية حديثة. فنشطت زراعة أشجار الفاكهة، وبخاصة التوت، فضلاً عن الزيتون والحبوب والقطن. ونشطت صناعة الحرير من طريق تربية دود القزّ، وأسهمت جودة الحرير العالية وحرفية صنعه في تهافت أسواق العالم على شرائه، وكذلك الزيت والصابون. وشكّلت التجارة الزاوية الثالثة لمثلث اقتصاد إمارة فخر الدين، ما أكسبها طابع الدولة، وازدهرت مرافئ بيروت وصيدا وصور واكتظّت بالمراكب التي كانت تفرّغ المنتجات الأوروبية وتصدّر المنتجات اللبنانية الى بقاع الأرض.

تستدعي مناقشة الأسباب التي جعلت الأمير فخر الدين الكبير يتفرّد بنظرته الى الحكم وتجسيده مفهوم الدولة وبناء مفاصلها، البحث في خصوصية جبل لبنان وطرق العيش التي سادت في الماضي. فعرف الجبل تعايشاً وتكافلاً وتضامناً بين الطوائف كافة التي قطتنته، ونقصد بها بشكل خاص الأقليات التي لاقت فيه ملجأً لممارسة طقوسها وشعائرها الدينية. ويمكن الاستخلاص، خلافاً للنظرة السائدة عن الصراعات القائمة في الجبل بين طوائفه، أن سكانه تكافلوا وتعايشوا بسلام طوال قرون من الزمن، ولم تكن الحروب والنزاعات ومحطّات الصراع سوى مراحل قصيرة ومؤقتة، لم تستمر سوى سنوات معدودة، علماً أن الحيّز التاريخي والاعلامي في لبنان، أعطى الأولوية لسنوات النزاع وسلّط الضوء عليها، متغافلاً القرون الطويلة من التآخي والسلام.

ويقول خليفة، رداً على سؤال، إن “طبيعة جبال لبنان الجغرافية منحت سكّانه طابعاً خاصاً، فحمت الأقليات حيث مارست حرّياتها. وكان جبل لبنان منذ المسيحية الأولى مركزاً للجوء المواجهين للسّلطة المركزية. فغدا موطناً للموارنة وملجأً للسّريان ضدّ السلطة المركزيّة البيزنطيّة، وأتى الدروز إليه ومارسوا معتقداتهم. وكان ابن جبير واضحاً في كلامه عندما مرّ في جبل لبنان، ورأى المتنسّكين من كلّ الطوائف يتعاونون في ما بينهم في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وما لبثت الذاتية اللبنانية أن تبلورت في القرنين السادس عشر والسابع عشر مع فخر الدين الكبير، وتمدّد الحضور الماروني الديموغرافي باتجاه الجنوب، ونشأت الرهبانيات وتقدّم الفلّاحون جنوباً ووصلوا إلى رميش والقليعة”.

ويلفت الى أنه “لا بد من مقاربة حقبة ما قبل فخر الدين الكبير حتى نفهم مرحلته. فقد تعرّض الدروز في جبل لبنان الجنوبي في تلك الحقبة إلى حرب استنزاف من الدولة العثمانية، وهذا ما أبرزته وثائق المهمة دفتري التي نُشرت مؤخّراً. وقد تكلّم ابن طولون عن هذه المجزرة والإبادة الاستنزافية التي تعرّض لها الدروز، فقد دُمّرت 80 قرية درزيّة وأحرقت بكاملها. فتعاون الأمير المعني مع جيرانه من الطوائف الأخرى، على أثر الفراغ الديموغرافي في جبل لبنان الجنوبي. ولا يغيب عن المشهد أن الدولة العثمانية كانت تعاني من الضعف والتشرذم الداخلي في فترة حكمه. وقد كان فخر الدين حكيماً وبعيد النظر”.

وبدوره، يخلص مُراد الى أن “المعطيات مجتمعة تشير الى أن فخر الدين الكبير أراد بناء دولة مستقلّة عن السلطنة العثمانية بدعم من الدول الأوروبية. ولا يغيب عن المشهد أن السلطنة بعثت مئة ألف عسكري لمحاربة إمارة جبل لبنان الصغيرة قياساً بمساحة الدولة العثمانية ونفوذها، وهذا يؤشّر الى شكوك ومعطيات تفيد بأنه يسعى الى الاستقلال. فماذا يشكّل الدروز والموارنة عددياً نسبةً الى الدولة العثمانية التي أسقطت القسطنطينية وانتصرت على الغرب؟”.