Beirut weather ° C
تاريخ النشر November 3, 2023
A A A
عندما يتعرّى الغرب من «زيفه»: توحّش النهايات
الكاتب: وليد شرارة - الأخبار

 

دخل العالم طوراً جديداً من التوحّش. حرب الإبادة الصهيونية – الأميركية – الغربية على غزة، دليل جليّ على ذلك. سقطت الأقنعة عن وجوه قادة هذه الحرب، ونُزعت القفازات من أيديهم: رفض لوقف إطلاق النار، إنكار للمذابح المرتكبة ضدّ المدنيين أو اتهام للمقاومة بالمسؤولية عنها كما حصل بعد قصف المستشفى «المعمداني»، تسويق لمشروع التطهير العرقي في قطاع غزة تحت شعار «إجلاء المدنيين»… ترافق كلّ ذلك مع حشد لحاملات الطائرات والزوارق الحربية، وإعلان عن الاستعداد للقتال، «الكتف إلى الكتف»، مع الجيش الصهيوني في حال تدخّل محور المقاومة لدعم غزة.

من الواضح أن قادة هذه الحرب، أو قادة محور العدوان، يعتقدون بأن إلحاق نكبة جديدة بالشعب الفلسطيني، عبر عمليات قتل وتدمير واسعة النطاق، وأيضاً تهجير إنْ أمكن، كل ذلك سيسمح بالإجهاز على قوى المقاومة في صفوفه، وإضعاف محور المقاومة في المنطقة، وتعديل موازين القوى فيها لصالح التحالف الإسرائيلي – الأميركي – الغربي. لكنّ الفارق الكبير بين الحرب الراهنة والحروب التي شُنّت قبلها على دول المنطقة وشعوبها، هو أن الأولى ليست نتاجاً لمخطّط أو لمشروع يبغي «إعادة صياغة» الإقليم، بل ردّ فعل بدائي على فعل لحركة مقاومة، يحاول بثّ «الصدم والترويع»، عبر اقتراف المذابح الجماعية والتلويح بالمزيد منها ليس إلّا… يجري التعويض عن غياب التصوّر الواضح أو المخطّط بالقتل الجماعي مع التناسي المتعمّد لما سينجم عنه. زُرع الكيان الوظيفي في المنطقة للتصدّي لحركة التحرّر العربية بالنيابة عن القوى الإمبريالية، وقام بذلك لعقود، لكنه أضحى عاجزاً عن أداء مثل هذا الدور، ما يضطرّ الأصيل، المتورّط في مواجهات كبرى أخرى، للعودة والدخول في معارك ومجابهات لم يتوقّعها، ومن الصعب معرفة مآلاتها.

لم يستطع المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني الإفادة من سياقات السيطرة الغربية الكاملة على العالم، كما فعلت المشاريع الاستيطانية الغربية المشابهة له، ولكن التي سبقته بحوالي القرن. فمشاريع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا مثلاً، تمكّنت من إبادة القسم الأعظم من السكان الأصليين، والاستيلاء الكامل على بلادهم وثرواتها، والتحوّل بسرعة خارقة، خاصة في حالة الولايات المتحدة، إلى قوة دولية متطوّرة وعاتية. كان السياق العام الدولي يتّسم بالسيطرة الغربية الكاملة على «الآخرين» بفضل التفوّق في تقنيات القتل. الظروف التي زُرع فيها الكيان الصهيوني في منطقتنا في أواخر أربعينيات القرن العشرين تخلّلتها مفارقات هامّة. صحيح أن هذا الأخير حظي بدعم قوى الاستعمار القديم الفرنسي والبريطاني، وكذلك بدعم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عند إنشائه، إلا أن هذه العملية توازت مع انطلاق مسار تحرّر بلدان منطقتنا وغيرها من بلدان ما كان يُسمّى بالعالم الثالث، من سيطرة الاستعمار الغربي. المشروع الصهيوني كان جزءاً من مشروع إدامة السيطرة الغربية على المنطقة العربية. ولذا، فهو لم يواجَه بمقاومة الشعب الفلسطيني وحده، بل وأيضاً بمقاومة بقية شعوب المنطقة ودولها الوطنية وحركاتها التحرّرية. قضية فلسطين من اللحظة الأولى كانت قضية أمة وليست قضية شعبها وحده، ما منع الصهاينة وحماتهم الغربيين من الاستفراد بشعبها والإجهاز الكامل عليه كما حصل في حالات الاستعمار التي سبق أن أشرنا إليها. لا يعني هذا الكلام أن الشعب الفلسطيني تمتّع بما يستحقّ من الدعم، أو أن جميع الأنظمة والحركات السياسية في المنطقة واجهت المشروع الصهيوني كما ينبغي، لكن من المهم إدراك أن الترابط بين مقاومة الشعب الفلسطيني وقوى تحرّرية أو أنظمة وطنية في المنطقة كان بين العوامل التي حالت دون تصفية القضية الفلسطينية.

الشعب الفلسطيني وحلفاؤه الخُلّص في الإقليم سيقاومون مهما كلّف الأمر إمكانية نكبة ثانية

ارتبط الكيان الصهيوني بعلاقة تحالف مع بريطانيا ومن ثمّ مع فرنسا، وتالياً مع الولايات المتحدة التي ارتقت العلاقة معها من المستوى الإستراتيجي إلى الصلة العضوية والتماهي الثقافي – الأيديولوجي شبه الكامل بين النخب الحاكمة فيهما. قيل الكثير حول هذا الموضوع، وربّما يكفي للدلالة عليه التذكير بما قاله جو بايدن خلال زيارته للكيان في عام 2021، من أنه صهيوني وأنه «ليس على المرء أن يكون يهودياً لكي يكون صهيونياً»، أو بمسارعة وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، عند قدومه إلى الكيان بعد عملية 7 أكتوبر، إلى الإعلان أنه أتى كـ«يهودي أولاً» وكوزير خارجية لواشنطن ثانياً أو ربّما ثالثاً. هذا التماهي الثقافي – الأيديولوجي يبرز في مرحلة تاريخية أعادت فيها دول الغرب بمجملها اكتشاف انتمائها إلى «الحضارة» نفسها، وفي الواقع القطيع المذعور نفسه، بفعل انحسار نفوذه المتعاظم اقتصادياً وسياسياً وجيوسياسياً على الصعيد الدولي، وتنامي دور «الآخرين» غير الغربيين. والتماهي مع إسرائيل هو بين المشتركات الأيديولوجية – الثقافية لقادة هذا الغرب، ولذا من السهل أن ينطق إيمانويل ماكرون أو أولاف شولتس أو ريشي سوناك بكلام شبيه بالذي تفوّه به بايدن. غرب مذعور ينحسر نفوذه كان يخوض غمار حرب بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، ويستعدّ لخوض أخرى مع الصين في بحرها الجنوبي وفي تايوان، يعود ويهرع إلى المشرق العربي للمشاركة، بدرجات غير متساوية، في حرب الإبادة والتطهير العرقي الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة.

ما يمكن التأكيد عليه حتى الآن هو أن الشعب الفلسطيني وحلفاءه الخُلّص في الإقليم سيقاومون مهما كلّف الأمر إمكانية نكبة ثانية، وأن مثل هذه الإمكانية بدأت تستنهض شعوب المنطقة وقواها الوطنية، وأن الدول العربية المسماة «معتدلة» كمصر والسعودية لن ترضى بحدوثها. يؤسّس تقاطع هذه المواقف موضوعياً لتشكّل ائتلاف رافض لحرب الإبادة والنكبة، يتلاقى مع مواقف قوى دولية غير غربية وازنة كروسيا والصين وتركيا وجنوب أفريقيا وماليزيا وإندونيسيا والبرازيل وغيرها، معارضة هي أيضاً لها. وإذا كانت النكبة الأولى قد أطلقت ديناميات سياسية أدّت إلى استقلال دول المنطقة عن قوى الاستعمار القديم الأوروبي، فإن مشروع النكبة الثانية، في مرحلة انحسار النفوذ الأميركي والغربي الراهنة، سيقود إلى استعار المواجهة مع هذا النفوذ ووكيله الصهيوني الذي أصبح كسيحاً. هو يتوحّش اليوم، لكنه توحّشُ النهايات.