Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر August 21, 2023
A A A
تقرير “ألفاريز أند مارسال” لأخذ العلم فقط… والمحاسبة ممنوعة!
الكاتب: سلوى بعلبكي - النهار

لا ينافس طلاسم نتائج تقرير “ألفاريز أند مارسال” النهائي أو “المسوّدة” الأولية كما يشاع ويسرّب، إلا أسرار ومكائد وفذلكات العقد الموقع منها مع الدولة اللبنانية. هذا العقد كلف اللبنانيين ملايين الدولارات، وأطناناً من حبر البيانات، وساعات من السجالات المتضادة بين أهل السلطة، والتهجّم المتبادل في ما بينهم. تقرير رُفعت باسمه رايات مكافحة الفساد، لم تنتهِ عند المطالبة بتأديب وتغيير النظم المصرفية، والمتولين شؤون المال والنقد، مروراً دوماً وأبداً بـ”رشة” من المزايدات الطائفية والمذهبية، والكثير من النكايات، وتصفية الحسابات الحزبية والسياسية.

“تمخض الجبل، فولد فأرة”. فيما الآمال السياسية والشعبية التي انتظرت التقرير ونتائجه بفارغ صبر المرابضين لاقتناص اللحظة والفرصة التاريخية، أتت خيباتها أكبر من مفاعيله، وعائداتها السياسية، أقل بكثير مما حمل وكشف اللثام عنه. فالمدقق مليّاً في ما حوى المسرَّب من التقرير، يتولد لديه اقتناع حاسم بأن الممنوع لا يزال ممنوعاً، وأن ثقافة المحاسبة والشفافية لا تعدو كونها أطروحات برلمانية حكومية، معطوفة على شعبويات انتخابية وسياسية، لا تخدم كشف الحقيقة المرجوّة في ملف الفجوة الدولارية التي نشأت في مصرف لبنان.

“من بطن أمو”، جاء التقرير، مصاباً بعاهة الشلل، وعدم القدرة على السير منفرداً، إلا بموافقة أمّه شركة “ألفاريز أند مارسال”، إذ وفق مندرجات العقد الموقع بين الدولة اللبنانية يحتاج العقد الى موافقة الشركة، ليتاح له الحركة. فهو مقيّد في أحد بنوده، بعدم قدرة الدولة، أو أي جهة رسمية فيها أو أهلية، على استعمال نتائج التقرير كلياً أو جزئياً، عند أي جهات قضائية محلية أو دولية، ما لم توافق “ألفاريز أند مارسال” على ذلك. فالحقيقة الصادمة حيال التقرير ليست في ما انتظره المنتظرون بل في ما تسرّب، أو ما عمد إلى تعميمه، لأنه قصد به أخذ العلم فقط، ونقطة على السطر. أمّا المحاسبة والحق بالوصول إلى المعلومة والحقيقة، فلا تعدو كونها ترفاً حضارياً وديموقراطياً، ولزوم ما لا يلزم، في بلاد النهب المقونن، شكلاً وحماية.

في التفاصيل “الموجعة” أنه بموجب المادة 5 من العقد الموقع مع “ألفاريز أند مارسال”، لا يحق للدولة اللبنانية استخدام التقرير أمام القضاء إلا بعد موافقة الشركة التي يعود إليها، في هذه الحالة وقبل إجازة الاستعمال، الحق في تعديله وتكييفه أو حذف اسمها عنه وجعله “unmarked”. وهذا الأمر يبدو مبرماً برأي الكثير من القانونيين، ولكن ثمة آراء قانونية أخرى تؤكد أنه يمكن للدولة أو أي متضرر آخر إلزام الشركة الإفراج عن المستندات التي اطلعت عليها والاستناد الى وقائع التقرير للادعاء على مصرف لبنان. فالتقرير بيّن وقائع معززة بمستندات اطلعت عليها الشركة وتالياً بما أن الحق في الدعوى غير مقيّد، وبما أن الضرر متحقق، يرى المحامي باسكال ضاهر أنه “يمكن استخدام الوقائع المذكورة في التقرير أمام القضاء، بما يلغي مفعول المادة التي تقيّد الدولة اللبنانية في الحق في استخدامه”.

من هنا يدعو ضاهر الى إعلان حالة طوارئ حقوقية ترمي إلى تشريح تقرير التدقيق الجنائي تمهيداً لتحديد المسؤوليات المتشعبة عن “سرقة العصر” وإتمام المحاكمات كافة. ويقول “بما أن الشعب اللبناني متضرر من أفعال البنك المركزي، فإنه يمكن لأي كان الاستناد الى هذا التقرير لا سيما أن الوقائع المذكورة في التقرير مستندة الى وقائع مثبتة بمستندات اطلع عليها التقرير، ولم يُبنَ على مجهول، وإذا رأت المحكمة أن المستندات يجب استكمالها للتحقيق في جرائم أخرى أو استكمال تحقيق قائم، فإنه يحق للقضاء أن يطلب من مصرف لبنان استكمال هذه المستندات، ولا سيما أن تكاليف هذا التقرير مسددة من أموال اللبنانيين دافعي الضرائب”.

التقرير أشار بوضوح الى أن المصرف المركزي لم يسلم الشركة كامل المستندات، وبنى نتيجته على ما اطلعت عليه من مستندات، ولم يستنتج ولم يبنِ أي نتيجة على ما لم يتم تسليمه له. بمعنى آخر، يقول ضاهر إن التقرير شرح وحلل المستند الذي تسلّمه واستخلص منه ما بيّنه وهذا برأيه كافٍ لتدخل القضاء حتى لو ذكر بعقد التكليف خلاف ذلك، مشيراً الى أن تكلفة هذا التقرير سُدّدت من جيوب دافعي الضرائب، بما يحتم العمل على تفعيله وعدم إهماله”.

ويؤكد أنه “لا يمكن فصل تقرير التدقيق الجنائي عما تقوم به السلطة الحاكمة ولا سيما منذ عام 2020 من تحميل ثمن الفساد وهدر الحقوق والأموال للشعب والمودعين عبر إلزامهم بـ”هيركات” غير قانوني وقيود على السحب ومنع تحاويل، حتى تلك المرتبطة بالتعليم والعلاجات الطبّية. كما لا يمكن فصله أيضاً عن جميع مشاريع القوانين والخطط التي تُطرح والتي تهدف برمّتها الى منع سياسة المحاسبة والتأكيد على سياسة الإفلات من العقاب وعدم المسّ بأشخاص وجيوب الفاعلين”.

وبقراءة أولية يرى ضاهر أن التقرير الجنائي أكد أن المصرف المركزي كانت مهمّته العمل على نقل الأموال من جيوب المودعين الى جيوب الفاسدين في السلطة، وأن ما نعيشه راهناً هو مفتعل وحصل عن علم، وأن الانحرافات والمخالفات القانونية التي كان يقوم بها المصرف المركزي لصالح السلطة الحاكمة ارتدّت بسلبياتها على عموم الشعب اللبناني والمودعين خصوصاً.

التقرير اعتبر أن المجلس المركزي لمصرف لبنان كان مسؤولاً عن القرارات التي اتخذها المصرف المركزي، وتالياً يؤكد ضاهر أنه “غير صحيح ما يشاع بخلاف ذلك ولا سيما أن التقرير أكد أن موافقة المجلس على القرارات كانت تتم إما بصورة صريحة أو بصورة ضمنية”، واضعاً علامات استفهام حيال “اختفاء الصفحة 262 من التقرير الموزع، علماً بأن الصفحتين 261 و263 تتحدثان عن المجلس المركزي لمصرف لبنان”.

وفيما أشار التقرير الى انحرافات المصرف المركزي ومخالفاته القانونية بدعم الكهرباء، شدّد ضاهر على أن “قانون النقد والتسليف يمنع في موادّه إتمام أي مساعدات، وفرض مبدأ منع القرض منه إلا ضمن نطاق ضيّق، وبعقد يتضمّن شروطاً واجبة التحقق، وهي صعبة جداً، على أن تكون المخاطر على حساب الدولة”.

المستفيدون شركاء في الجريمة

التقرير بيّن حجم التنفيعات والأموال والعمولات غير الشرعية التي كان يوزعها المصرف المركزي على هيئات وشركات خاصة فضلاً عن إعلاميين وأشخاص مرتبطين بسياسيين، وهذا أمر جلل وفق ما يقول ضاهر فهو “أمر ممنوع بموجب أحكام قانون النقد والتسليف منح هذه التنفيعات وبالتالي يجب إعادتها حالاً، بيد أن ما يثير الدهشة أن هؤلاء المستفيدين كانوا يشكلون الغطاء للمخالفات التي كانت تُرتكب في المصرف المركزي، وتالياً يمكن اعتبارهم شركاء في الجرم المرتكب بحق الشعب اللبناني والمودعين اللبنانيين والعرب والأجانب”.

ولفت ضاهر كذلك الى ما أظهره التقرير من “تحكم مصرف لبنان بالائتمان وتوجيهه القروض والمنافع واختزال القطاع المصرفي فيه، بما يشكل انحرافاً أدّى الى انتقال المصارف التجارية الى مصارف استثمارية، بما شكل خللاً هادفاً فقط الى نقل الودائع الدولارية الى حوزة المركزي”.