Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر January 27, 2020
A A A
إسترداد الموازنة من قبل الحكومة إلزامي والمطلوب إدخال الخطّة الإنقاذية فيها
الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة - الديار

يُناقش مجلس النواب اليوم مشروع موازنة العام 2020 تحت وطأة احتجاجات شعبية مُتوقّعة. هذا المشروع فرض جدالا بين الحكومة وبعض القوى السياسية فقد قالت هذه الأخيرة أن الحكومة لم تطّلع أو تناقش هذا المشروع الذي أقرّته الحكومة السابقة وبالتالي كيف يُكمن لها الدفاع عن مشروع الموازنة أمام مجلس النواب.
بالطبع لن نتطرق الى الشق السياسي من هذه المُشكلة بل سنحاول مُعالجتها من الباب الاقتصادي المالي البحت. فهذه الموازنة تمّ إقرارها في أيلول الماضي في ظل ظروف لا تنطبق على الظروف الحالية، حيث ان المُعطيات الماكرو اقتصادية (توقّعات النمو، التضخّم، البطالة …)، المعطيات المالية (الدين العام، العجز…)، المُعطيات النقدية (دولار الصيارفة وما له من انعكاسات، سعر الفائدة…)، والمُعطيات الاجتماعية (نسبة الفقر، تراجع القدرة الشرائية…) تغيّرت مُعظمها إلى الأسوأ وفرضت واقعًا جديدًا أصبح معه مشروع موازنة العام 2020 غير قادر على مواكبة التحدّيات الراهنة.
لجنة المال والموازنة وقبل إقرارها مشروع موازنة 2020، قامت بعقد جلسة حضرها كل من وزير المال السابق علي حسن خليل، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف. وكان الهدف من هذا الاجتماع، الوقوف عند المعطيات الجديدة التي أعلنها الوزير علي حسن خليل آنذاك عن أن إيرادات الموازنة انخفضت في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2019 بنسبة 40%! وسعت اللجنة لمعرفة تفاصيل هذا الواقع ومدى انعكاس أزمة شحّ الدولار في الأسواق على المصارف وعلى مصرف لبنان اللذين تُعتبر مُسهامتهما في موازنة 2020 أساسية لناحية خفض العجز. فقد نصّ المشروع على تحميل مصرف لبنان نصف خدمة الدين العام وفرض ضريبة استثنائية على المصارف التجارية بهدف تأمين مبلغ إجمالي يوازي 5000 مليار ليرة لبنانية.
مناقشة مشروع موازنة العام 2020 في المجلس النيابي في حضور الحكومة الجديدة تعني ما يأتي:
أولا- إلزام الحكومة بموازنة لم تدرسها ولم تُقرّها وهو أمر يعفيها بالمنطق من الالتزام بأرقامها خصوصًا أرقام عجز الموازنة؛
ثانيًا- المُعطيات الاقتصادية، والمالية، والنقدية والاجتماعية تغيّرت بالكامل مع تردّي هذه البيئات بشكل إجمالي وتفاوت في نسبة التراجع بين بيئة وأخرى. وبالتالي لا يُمكن مواجهة الاستحقاقات القادمة بموازنة تمّ إقرارها قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية؛
ثالثًا- مشروع الموازنة هذا لا يُمكن أن يلاقي أهدافه خصوصًا أن الأرقام التي لم تعد تعكس الواقع والتي ستنطلق من خلالها الحكومة الحالية، لا تسمح لها بوضع خطّتها الانقاذية موضع التنفيذ إلا في حال تمّت إعادة إقرار قانون جديد في المجلس النيابي ليأخذ بعين الاعتبار الالتزامات المالية الجديدة في ما يخص المساعدة الدولية (المادة 88 من الدستور)؛
رابعًا- إقرار مشروع الموازنة على حاله يعني أن الموازنة هي «شبه موازنة» بالمعنى الاقتصادي لأنها تُحصي النفقات العامة وتتوقّع إيرادات عادة ما تكون بعيدة عن الواقع. وهذا يعني أن الموازنات التي تمّ إقرارها في السنين الماضية هي موازنات حسابية بحت!
خامسًا – كيف يُمكن للحكومة أن تُنفّذ خطتها الإنقاذية من خارج الموازنة التي تُعتبر الأداة القانونية الأساسية لتطبيق خطتها حتى ولو تمّ إقرار قانون جديد لهذه الخطة؟ فالتداعيات المالية هي مباشرة!!!
من هنا نرى أن إقرار الموازنة يأتي في ظل سعي المعنيين إلى الحفاظ على المهل الدستورية وامتلاك موازنة بحدّها الأدنى، أكثر منها موازنة إصلاحية – إنقاذية تهدف إلى إخراج لبنان من مأزقه الحالي.
التوجهات العامّة للحكومة تُشير إلى اقتناع لدى رئيس الحكومة ووزير المال بضرورة طلب المُساعدة من الخارج. وهذا يعني أن هناك مفاوضات سيتمّ القيام بها مع الجهات الخارجية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي سيفرض على الحكومة عدداً من الإجراءات كنا قد ذكرناها في مقالنا في جريدة الديار عدد نهار السبت الماضي. هذه الإجراءات تدخل في صلب السياسة المالية للحكومة وبالتالي أي اعتماد لهذه الإجراءات من قبل الحكومة، يجب أن يمرّ إلزاميًا بالمجلس النيابي للحصول على غطاء قانوني.
للتذكير تتضمن هذه الإجراءات التي يُمكن تصنيفها بأنها إجراءات على المديين المتوسط والطويل، زيادة الإيرادات من خلال رفع الضرائب (وعلى رأسها الضريبة على القيمة المُضافة) والرسوم (بالتحديد الرسم على البنزين) وخصخصة العديد من المرافق العامّة (مثل شركة الكهرباء، المطار، المرفأ، شركتي الخليوي، أوجيرو، الكازينو، الميدل إيست…) وغيرها من الإجراءات التي تزيد الإيرادات بشكل مُستدام. أيضًا تتضمّن هذه الإجراءات عدداً من الخطوات التي تهدف إلى خفض الإنفاق العام وذلك من خلال سحب الدعم عن كل السلع والبضائع والخدمات (مثل كهرباء، المازوت، الصحة، النظام التقاعدي…)، وخفض الأجور في القطاع العام (والذي قد يصل إلى 50%) وخفض إنفاق الدولة الجاري وغيرها من الإجراءات التي تهدف إلى خفض الإنفاق بشكل مُستدام مثل محاربة الفساد.
من هذا المُنطلق، يتساءل المراقب عن الفائدة من إقرار موازنة معروف سلفًا أنها لن تُعتمد ولن تُطبّق خصوصًا أن الإجراءات الواجب تخاذها يجب أن تدخل حيز التنفيذ هذا العام وليس العام القادم نظرًا إلى الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي الحرج جدًا!
لذا ومن هذا المُنطلق وبغض النظر عن المُعطيات القانونية (دورة استثنائية للمجلس النيابي…) نرى أنه من المنطق أن تعمد هذه الحكومة إلى استرداد مشروع موازنة العام 2020 لإدخال التعديلات التي تُحاكي الواقع الحالي وخصوصًا خطتها الإنقاذية التي من المفروض أنها أصبحت تملك تصوّرًا عن خطوطها العريضة.
وباعتقادنا من أهم الخطوط العريضة للخطّة الإنقاذية للحكومة هناك: مكافحة التهرّب الضريبي الذي يُشكّل عقبة أساسية أمام تحقيق إيرادات الخزينة، ملاحقة التهريب الجمركي من ناحية أن هذا الأمر أصبح يُشكّل مُشكلة كيانية على لبنان، مكافحة استباحة الأملاك العامة من أملاك بحرية ونهرية وسكك حديد ومشاعات للدولة يتمّ وضع اليدّ عليها من قبل أصحاب النفوذ، وقف هدر شركة كهرباء لبنان بكل الوسائل المُمكنة عبر تعجيل تطبيق الخطّة وتقصير مُدة تنفيذها، ملاحقة الهدر والفساد في الموازنة عبر وقف كل المؤسسات والأجهزة الإدارية التي لا لزوم لها، فتح ملف الأموال المنهوبة على مصراعيه وتسليمه إلى القضاء بعد إقرار قانون استقلالية هذا الأخير، وضع الخطة الاقتصادية من خلال البدء بمناقشة خطة ماكنزي وتعديلها أو أخذ أفكار منها بهدف تطبيقها ودفع العجلة الاقتصادية.