كتب ناصر قنديل في “البناء”
بات واضحاً أن نسبة من المرونة تتجسّد في قبول هدنة لا تتضمّن نصاً صريحاً على إنهاء الحرب، تمثل موقف المقاومة في غزة في ظل ضغط الوضع الإنساني أمام تواصل حرب الإبادة والتجويع، لكن الواضح أيضاً أن الاحتلال ليس قادراً على التمسك بتصوراته لهذا النوع من الاتفاقات، حيث بات وقف الحرب ولو بصيغة هدنة يتم تمديدها، يضغط على قيادة الكيان خارجياً وداخلياً بصورة تفرض تخفيض سقف التوقعات والشروط، بل ربما وفقاً لبعض التحليلات الغربية والإسرائيلية، تجعل وقف إطلاق النار مطلباً إسرائيلياً.
كان هناك تبرير يتكرّر على ألسنة قيادة الكيان لمواصلة الحرب بعد عشرين شهراً على انطلاقها دون التوصل إلى تحقيق ما يسمّيه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بالنصر المطلق على حماس، أي إلزامها بإلقاء السلاح ضمن أي اتفاق لإنهاء الحرب، أو التمكن من القضاء على قواتها وصولاً إلى توقف القدرة على المقاومة، وهذا التبرير الذي كان في الشهور العشرة الأولى يتنقل من مدينة إلى مدينة في غزة، من احتلال مجمع الشفاء الطبي إلى دخول دير البلح إلى احتلال خان يونس وصولاً إلى الدخول إلى رفح، حتى امتلأت تصريحات نتنياهو بربط النصر بكل مرحلة بدخول مدينة في قطاع غزة، بينما في الشهور العشرة الثانية كان تبرير استمرار الحرب هو أن الحرب سوف تحسم بمجرد شنّ الحرب على إيران وربحها، وعندها تتهاوى كل قوى المقاومة ومنها حماس مثل أحجار الدومينو.
بعد الحرب على إيران، أعلن نتنياهو النصر، لكن عمليات المقاومة في غزة تصاعدت وكذلك حضور اليمن العسكري بوجه كيان الاحتلال، سواء في البحر الأحمر أو في استهداف عمق الكيان، بحيث أن نظرية الدومينو تحوّلت إلى موضع سخرية، وصار مطلوباً تقديم استراتيجية خروج مقنعة من الحرب، سواء للداخل الإسرائيلي، أو للحلفاء في الغرب الذين ينزفون بسمعتهم ورصيدهم أمام شعوبهم التي تحملهم مسؤولية الشراكة بجرائم الاحتلال في غزة، بل إن الحرب على إيران فاجأت الغرب برد فعل الشارع الذي وقف مع إيران، بسبب حرب غزة والاعتقاد أن الصمت الدولي على جرائم الكيان كان يحتاج إلى عقاب ينزله أحد بـ”إسرائيل” ولو كانت إيران، وبغياب أي أفق للحرب أو لجدول زمني لإنهائها، وسقوط نظرية الدومينو، وتفاقم وتمادي العبء الأخلاقي الذي تحاسب الشعوب حكومات الغرب على أساسه، صار مطلوباً إنهاء هذه الحرب، وليس خافياً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب صاحب مشروع تهجير غزة، والذي هدّد بفتح أبواب الجحيم عليها مرة عندما تم تعليق عمليات التبادل احتجاجاً على خرق الكيان لشروط الاتفاق، هو نفسه الرئيس ترامب الذي يتحدث اليوم بنبرة قوية طلباً لوقف الحرب.
بالتوازي مع هذا التغيير الجوهري في بيئة قرار الحرب سياسياً واستراتيجياً، بلغت تداعيات الحرب على جيش الاحتلال مرحلة يصعب التعايش معها بمواصلة الحرب، وقد شهدت آخر جلسات النقاش التي جمعت نتنياهو مع رئيس الأركان الذي عيّنه من مؤيديه المتطرفين المرتبطين بتيار المستوطنين الدينيين، جدالاً حاداً بينهما وسمع الصراخ إلى خارج الاجتماع كما نشرت الصحافة العبرية، مضيفة أن رئيس الأركان نقل وضعاً مزرياً يعيشه الجيش في غزة، حيث الجنود يقاتلون بدون روح وأن معنوياتهم منهارة، حيث تفككت ألوية النخبة وفقدت الكثير من قوامها البشري والجنود الذين جاؤوا من الاحتياط استحقّ موعد تسريحهم منذ مرة لكن لا بدائل لهم ينضمون للجيش، وكل نداءات التطوع والتجنيد لا تحقق النتائج المرجوة، بينما تتصاعد عمليات المقاومة كماً ونوعاً وتحقق نتائج قاسية يصعب تحملها طويلاً من جيش الاحتلال، وأنه يجب الاقتناع بأن الجيش فعل أقصى ما يمكن فعله وقد آن الأوان لإنهاء الجهد العسكريّ.
في الداخل الإسرائيلي تطوّرات وتداعيات الحرب على إيران، فالحديث عن النصر لا يُخفي حجم التصدّع الذي أصاب المجتمع والجبهة الداخلية والشعور بالقلق والخوف، وتحول نداء الخروج من الحرب إلى تعبير جماعيّ في الكيان، حيث لم يعُد المعيار الثقة بصحة تشخيص العدو سبباً كافياً لتقبل خوض الحرب، وهذا يصحّ مع إيران ومع غزة، بقدر ما صار السؤال عن كلفة الحرب عاملاً حاسماً لقبول تحمّل تداعياتها، وقد ظهرت الحروب الحالية للمرة الأولى في تاريخ الكيان، حروباً باهظة الثمن، كما ظهرت حروباً لا تنتهي، وإذا كان الداخل الإسرائيلي يشارك في نظرية النصر لتبرير وقف الحرب مع إيران، فهو لا يُخفي أن هذه المشاركة في جزء منها تعبير عن رغبة بسماع الإعلان عن نهاية كل الحروب، طالما أن النصر على التهديد الاستراتيجيّ قد تحقق، وأمل ضمنيّ بعدم تجدد الحرب على إيران وصولاً لوقف الحرب في غزة.
في الكيان يخشى القادة العسكريون وتخشى المعارضة ويخشى الرأي العام، من أن يكون استمرار الحرب على غزة، كتلة نار سرعان ما تعود للتدحرج نحو جولة جديدة من الحرب على إيران، وهذه خشية أميركية وغربية، لكنها خشية عربية أيضاً، تحوّلت إلى صرخة في أذن الرئيس الأميركي من حكومات الخليج بضرورة وقف حرب غزة، كي لا يصحو لاحقاً على حرب جديدة مع إيران تجبر أميركا على الانخراط فيها لحماية “إسرائيل”، ولكنها حرب لن ينجو منها الخليج، وسرعان ما يتحوّل إلى إحدى ساحاتها بما في ذلك منشآته النفطية وغير النفطية وتجارته وموارده المالية، بما فيها التريليونات التي وعد الخليج بالإسهام بها في خطة ترامب المالية.
المفاوضات التي تجري في واشنطن وتلك التي تجري في الدوحة، تستشعر في خلفيتها كل هذه العناصر، بحيث يبدو وقف الحرب ولو بصيغة هدنة قابلة للتمديد ربما أكثر من مرة، ضرورة لا خياراً.