Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر August 4, 2021
A A A
4 آب “القيامة الآن” … العدالة آتية لا محالة
الكاتب: ابراهيم حيدر - النهار

مساء الرابع من آب 2020، كانت الرؤية واضحة من مبنى الصحيفة. الناظر إلى المرفأ من الطابق السادس في “النهار” إلى الطريق التي تصل ميناء بيروت بالدورة كان يلاحظ وجود آلاف السيارات تصطف في زحمة سير خانقة. وعندما ننظر بعيداً نشاهد المرتفعات المطلة على المدينة والساحل بصفائها وهدوئها وكأنها تنتظر حدثاً ما في هذه البقعة من المدينة. دقائق قليلة قبل السادسة مساء ذلك اليوم المشؤوم، انطلقت السيارات وباتت الطريق مفتوحة بلا زحمة، حتى فرغت نهائياً وصرنا نعدّ السيارات العابرة على الأصابع. من قال إن الأوتوستراد سيفرغ من السيارات والمارة قبل دقائق من الانفجار المروّع الذي أخذ معه المدينة وناسها وتاريخها، ولو كان حدث قبل وقته لكنّا شهدنا سقوط آلاف الضحايا على الطريق وحدها؟!

لم نكن ندرك أن الانفجار الأول في المرفأ بعد الحريق الذي كان دخانه الأسود ينبعث من النار الملتهبة قبالتنا في العنبر الرقم 12 وراء اهراءات المرفأ. لم نعرف أن هذا الحريق هو في عنبر يحوي نيترات الأمونيوم إلى أن حدث الانفجار الأول. كان هذا الانفجار باعثاً على تحذيرنا من أن شيئاً ما سيحصل في المرفأ، فالثواني الفاصلة بين الانفجارين الأول والثاني كانت كافية لإنقاذ الآلاف من الموت. وهي لحظات أيضاً تسببت بموت كثيرين ورمت ضحايا إلى النار تقدموا إلى الامام لاستيضاح الامر والمساعدة. في ذلك الوقت كان رجال الإطفاء وما تبقى من العاملين في المرفأ يكافحون النار، وما هي إلا ثوان حتى انفجرت نيترات الأمونيوم وتلاها عصف شبه نووي اقتلع من أمامه كل شيء وكأنها القيامة الآن.

لم يمر وقت طويل لندرك أن الكارثة وراءها فعلٌ بأيادٍ بشرية. كنا نعمل في مكاتبنا في “النهار” قبالة المرفأ ولا نبعد أكثر من ستمئة متر عن مكان الكارثة. نرى بأمّ العين منشآت المرفأ ونراقب الاعمال اليومية وقبالتنا تجثم زوارق القاعدة البحرية للجيش، ومن النقطة خلفها تخرج الشاحنات المحملة بالحاويات من المرفأ. بعد الانفجار الأول تحركنا من مكاتبنا لنراقب الحدث، ثم أتى العصف من كل حدب وصوب، وكأنه يسحب المبنى الى الفراغ ويهتز من قاعدته. لا، هذا ليس قصفاً جوياً للمرفأ، أو انفجارا كما كل عمليات الاغتيال التي شهدنا فصولها في لبنان، هو أكبر من ذلك بكثير، هو شيء يأخذنا إلى العدم. خمس دقائق من العصف الذي اقتلع ودمر المبنى لنستفيق من حالة اللاوعي والدماء التي تتناثر في كل مكان، من جباهنا وكل نقطة في أجسامنا. للوهلة الاولى شعرنا أن “النهار” مستهدفة، لحظات من الرعب كانت كافية لتحوّل مكاتبنا الى ركام. قبل دقائق كان كل شيء على حاله، المبنى يعج بالزملاء، ثم تحول إلى رماد! لم نصدق أن الانفجار كان يستهدف المدينة وأهلها وتاريخها وتراثها، وهو من فعل بشري وهناك مسؤول عنه هو المنظومة الحاكمة التي كانت تعلم بالمجزرة واحتمالاتها في أي لحظة، وتعرف أن نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ وتحميها وتغض الطرف عنها، واركانها يقطنون في مناطق محصّنة وبعيدة، ولا يهمها اذا انفجرت واقتلعت المدينة وتراثها وأبنيتها وأوقعت ضحايا بالمئات وجرحى بالآلاف ومهجرين بمئات الآلاف. المجزرة حوّلت بيروت إلى مدينة منكوبة ونحن منها حين خرجنا بدمائنا من بين الانقاض.

نجونا من الموت في تلك اللحظة الخيالية، لكن الانفجار حفر في الروح. لم يحدث أن شهدنا على كارثة في البلد بحجم انفجار المرفأ المروّع، اقله كنا شهوداً على الجريمة، فعندما يأخذك العصف للحظات إلى العدم وكأنك تخرج إلى الفراغ في مبنى يتطاير مع كل شيء حوله، تدرك بعد ذلك عند وقوفنا على أقدامنا أن حدثاً جللاً خطف جزءاً من حياتنا، وكسر شيئاً فينا لا ندركه تماماً، وإن كانت إرادتنا دائماً هي النهوض من أجل المحاسبة لا الانتقام ومن أجل العدالة لا الاقتلاع.
شهدنا بدمائنا على 4 آب، هذا اليوم الذي ترك فينا جرحاً لا يندمل، لكنه أيضاً يدفعنا إلى مزيد من المثابرة والعمل لكشف الحقيقة عن الكارثة التي تتحمل مسؤوليتها الطبقة الحاكمة وأولئك المجرمون الذين لا يكترثون لحياة شعبهم ومصائبه وموته المجاني… لكن العدالة آتية لامحالة.