Beirut weather 29.41 ° C
تاريخ النشر May 17, 2016
A A A
حينما كانت أوروبا تحب الإسلام في سالف الأيام
الكاتب: فورين بوليسي

في سالف الأيام، قبل انطلاق الحملات لمنع الحجاب في أوروبا، كان ممثلون عن الأرستقراطية في القارة العجوز يغيرون أسماءهم إلى عبد الله ومحمد، وكان الذهاب إلى المسجد من آخر صيحات الموضة.

لم يتغير المنظر الخارجي لمسجد فيلمرسدورف بجنوب غرب برلين كثيرا خلال السنوات التي مرت على تشييده في العشرينيات من القرن الماضي. لكن المسجد نفسه تغير، كما تغيرت المدينة التي تحيط به.

اليوم يبدو المسجد مكانا هادئا، ويُستخدم، بالدرجة الأولى كمركز استعلامات، على الرغم من أن مجموعة صغيرة من المسلمين تأتي هنا كل يوم جمعة للصلاة. ولم يعد هناك شيء يدل على أن هذا المسجد كان مركزا حيويا لحركة روحية ثقافية مضادة في جمهورية فايمار.

وتمكن دواعي “الجماعة الأحمدية” من منطقة بنجاب الهندية الذين بنوا هذا المسجد في العشرينيات من القرن العشرين، من جذب مجهور متنوع من سكان برلين بفضل استضافة محاضرات مكرسة لمسائل الفلسفة الأكثر إلحاحا آنذاك، ومنها توسع الثغرة بين الحياة والعقيدة، ومستقبل أوروبا ومستقبل البشرية بشكل عام. وتوافد الألمان من كافة الأعمار السنية لحضور الفعاليات المنظمة في المسجد في محاولة لإيجاد بديل معاصر، عقلاني وروحاني في آن واحد، بعد إصابتهم بخيبة الأمل في الحضارة المسيحية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

إنها صورة من الصعب أن نصدقها اليوم، لكن برلين في المرحلة بين الحربين العالميتين، احتضنت نخبة مثقفة مسلمة ضمت ليس مهاجرين وطلابا من جنوب آسيا والشرق الأوسط فحسب، بل والعديد من الألمان الذين اعتنقوا الإسلام.

ومن اللافت أن انفتاح الألمان على الإسلام وإعجابهم به لم يكن ظاهرة استثنائية في أوروبا الغربية، التي نشأت فيها مطلع القرن العشرين جماعات ومؤسسات مسلمة، إذ تزايد عدد معتنقي الإسلام في كل من بريطانيا وهولندا أيضا.

اليوم أصبحت هذه المرحلة من تاريخ العلاقات بين الإسلام وأوروبا في طي النسيان تقريبا، لكنها تبقى وثيقة الصلة بالوضع الراهن، عندما تتسم هذه العلاقة بحذر متنام وعدوانية معلنة في بعض الحالات.

حتى المناقشات الأكثر عمقا حول الإسلام في أوروبا، تتعامل مع وجود هذه الديانة في القارة العجوز كأنه ظاهرة جديدة، غريبة بالنسبة للحياة الثقافية والسياسية في أوروبا. لكن النظر إلى هذه الحياة في العشرينيات من القرن الماضي، بعد الموجة الأولى من هجرة المسلمين لأوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تظهر أن علاقة مختلفة تماما تكونت بين أوروبا والإسلام تميزت بالفضول من قبل المواطنين، وما يمكن وصفه بأنه محاباة من قبل الحكومات.

وفي الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يختبرون هذه الديانة الشرقية الغريبة، سعت حكومات الدول الأوروبية للتعامل مع المواطنين المسلمين معاملة تفضيلية: على سبيل المثال، كانت الحكومة الفرنسية العلمانية تنفق أموالا ضخمة على بناء مساجد فاخرة، فيما سعت ألمانيا لتظهر أنها تتعامل مع المسلمين بطرق أفضل بالمقارنة مع فرنسا وبريطانيا.

هناك أمثلة، على غرار هوغو ماركوس – فيلسوف يهودي مثلي اعتنق الإسلام، تظهر أنه لم يكن هناك “وجود” فحسب لهذه الديانة في أوروبا، بل هي أصبحت تلعب دورا حيويا في المناقشات حول مستقبل القارة.

ولد ماركوس في عام 1880، وانتقل إلى برلين لدراسة الفلسفة. واعتنق الإسلام عام 1925، وساعد في إدارة مسجد فيلمرسدورف. وتبنى ماركوس اسم “حامد” وانخرط في كتابة مقالات، كان يطرح فيها أسئلة حول أفكار أهم الفلاسفة في هذه الحقبة، مصرا على أن الإسلام يعد عنصرا أساسيا لصياغة “الإنسان الجديد، أي المواطن النموذجي التي يسعى الجميع بدءا من لاشتراكيين ووصولا إلى الفاشيين لتربيته.

داعاة الأحمدية كانوا يديرون مسجدا آخر في أوروبا الغربية – مسجد شاه جهان في ووكينغ ببريطانيا. وكان هذا المسجد يعمل بنجاح ويجذب معتنقي الإسلام الجدد من طبقات المجتمع العليا والوسطى، ومن أبرز المسلمين الجدد كان اللورد الايرلندي البارون رولاند الونسون – وين، الذي اعتنق الإسلام في عام 1913 وغير اسمه إلى الفاروق، وفي العشرينيات أدى اللورد هيدلي فريضة الحج، الأمر الذي لفت انتباها كبيرا من قبل وسائل الإعلام آنذاك، كما أنه كتب عددا من الكتب والمقالات بشأن الإسلام، إذ كان يأمل بمستقبل مشرق لهذه الديانة في أوروبا.

مسجد باريس الكبير

ومن معتنقي الإسلام الآخرين من هذه الفترة كان هاري جون فيلبي – ضابط في الاستخبارات البريطانية ووالد العميل المزدوج سيئ السمعة كيم فيلبي.

واعتنق فيلبي الإسلام عام 1930 أثناء إقامته في السعودية، وغير اسمه إلى عبد الله. بدوره غير ليوبولد فايس الكاتب الصحفي النمساوي من الأصل اليهودي، بعد اعتناقه الإسلام، اسمه إلى محمد أسد، واليوم يعد ابنه، طلال أسد، من أبرز علماء الأنثروبولوجيا في العالم.

بموازاة تنامي الإعجاب بالإسلام في الطبقات المثقفة، أظهرت الحكومات الأوروبية في هذه الفترة، تسامحا ومعاملة تفضيلية مع الإسلام والمسلمين، لكن الدوافع وراء هذا التعامل كانت نفعية.

خلال الحرب العالمية الأولى، كانت فرنسا وبريطانيا تعتمد على سكان مستعمراتهم، بينهم نسبة عالية من المسلمين، ليحاربوا من أجلهما في حقول المعركة بأوروبا. ولذلك كانت باريس ولندن توليان اهتماما بالغا لاحتياجات هؤلاء الجنود. وكان أئمة يتلقون رواتب من الحكومة، يخدمون في كل كتيبة مسلمة، بالإضافة إلى تقديم وجبات حلال للجنود، الذين كانوا يتناولون الكسكسي والقهوة والشاي بالنعناع (من اللافت أن الكتائب اليهودية لم تتمتع بمثل هذه التفضيلات) بدلا من لحم الخنزير والخبز.

بدورها أنشأت السلطات الألمانية أول مسجد في معتقل مخصص للأسرى المسلمين، إذ كانت برلين تحاول أن تظهر لهؤلاء أنها تتعامل معهم بصورة أفضل بالمقارنة مع الفرنسيين والبريطانيين، وذلك في إطار مساعي الحكومة الألمانية لإثارة اضطرابات في المستعمرات التابعة لخصميها.

وفي المرحلة ما بعد الحرب، أثار تنامي النزعات المعادية للاستعمار والتي كانت تعتمد بصورة متزايدة على تعزيز الهوية الإسلامية، قلقا بالغا في العواصم الأوروبية. وبدأ ضباط من الأجهزة السرية للدول الغربية بالتسلل إلى المقاهي التي كان يجتمع فيها المثقفون المسلمون في أوروبا، ومنهم شكيب أرسلان الذي كان آنذاك يقيم في جنيف.

رغم تنامي هذه النزعات، لم تفقد الحكومات الأوروبية الأمل في جذب المسلمين بوسائل الدعاية الناعمة. وفي عام 1926، استغلت الحكومة الفرنسية العلمانية، عددا من الثغرات في القوانين التي صغتها بنفسها، من أجل تمويل بناء مسجد باريس الكبير – الأمر الذي أثار غصب العديد من الكاثوليكيين، لكن الحكومة أعلنت أن بناء المسجد جاء تكريما لذكرى المسلمين الذين سقطوا في سبيل الدفاع عن فرنسا في الحرب. اليوم يرى معظم الباحثين أن بناء المسجد كان جزءا من الدعاية الاستعمارية، إذ كان الهدف الحقيقي وراءه يكمن في إظهار قوة الإمبراطورية الفرنسية في العالم الإسلامي. وكان العمال المسلمون المنحدرون من دول شمال إفريقيا، يعيشون في أحياء بعيدة عن المسجد، أما أوقات الصلاة، فلم تنسجم مع جدول العمل في المعامل والمصانع الذي كانوا يعملون فيها.

مسجد فيلمرسدورف

وفي عام 1935 قامت السلطات الفرنسية بتشييد مستشفى في بوبيني بجنوب شرق باريس، كان يخدم المسلمين المقيمين في المنطقة. بالإضافة إلى تقديم الطعام الحلال للمرضى، كان مبنى المستشفى يتميز بـ”أسلوب معماري شمال إفريقي” وبوجود غرف مخصصة للصلاة ومقبرة للمسلمين أقيمت بجواره.

خلال مرحلة التسلح قبل الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب نفسها، اكتسبت جهود الحكومات الغربية المزيد من الإصرار. وخلال هذه الفترة، ساعدت الحكومة البريطانية في تمويل بناء مسجدين في لندن، في الوقت الذي حاول فيه النازيون إقناع المسلمين، ولاسيما في أوروبا الشرقية، بالانضمام لصفوفهم في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي: في البلقان والقرم والقوقاز، حاول النازيون تصوير أنفسهم كأنهم حماة الإسلام، وركزوا في دعايتهم على معادة البلشفية واليهودية والإمبريالية البريطانية.

الحرب ومرور الزمن تركا أثارهما على مسجد فيلمرسدورف في برلين: وهو وقف شاهدا على معارك عنيفة خلال الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، عندما حفر الجنود الألمان خنادق في حرم المسجد، وأطلقوا النار على العسكريين السوفييت من مآذن المسجد العالية. وأسفر القتال عن تدمير أحد مآذن المسجد وإلحاق أضرار كبيرة فيه. ورغم ترميم المسجد في السنوات اللاحقة، إلا أنه لم يتمكن أبدا من استعادة مجده السابق.

وفي الوقت نفسه، اختفت محطات علاقة الأوروبيين بالإسلام من الذاكرة تدريجيا لسبب غير واضح تماما. وربما يعود هذا السبب لموجات هجرة العمال المسلمين إلى أوروبا في الستينيات والسبعينيات والتي حولت المسلمين إلى أقلية متنامية باستمرار، ما أدى بدوره إلى تنامي التوتر.