Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر November 25, 2016
A A A
يالطا 2… بين الحاجة والرغبة والضرورة
الكاتب: د. فائز حوالة - سبوتنيك

يُخطئ من يعتقد بأنّ (اتفاقية يالطا) الموقّعة في العام 1945 التي أنهت الحرب العالمية الثانية وضعت حدّاً لآلام البشرية وحقّقت أحلام الدول في التقدّم والازدهار ونسيان سنوات الخراب والدمار والقتل بمختلف أصناف الأسلحة التي تمّ استخدامها في الحرب العالمية الثانية بما فيها الأسلحة الذريّة.

ولكن توقيع هذه الاتفاقية كان من الضرورات التي أخرجت جميع القِوى المتحاربة في تلك الحقبة من حياة البشرية لأنّ الاستمرار بها وقتها كان يعني وبكل تأكيد نهاية العالم، ولكن هذه الاتفاقية ربما أرجأت هذه النهاية على أيدي البشرية لتترك لخالق البشرية الزمان والأسلوب الذي يحدّده لنهاية العالم. وبنتيجة هذه الاتفاقية انقسم العالم إلى معسكريَن شرقي وغربي أو اشتراكي ورأسمالي، عالمان متناقضان في أسلوب إدارة الثروات من عادل اشتراكي إلى صارم رأسمالي، من شعار من كلٍّ حسب استطاعته ولكلٍّ حسب حاجته إلى من كل حسب استطاعته ولكلٍّ حسب إمكاناته. واستمرّ العمل والمنافسة ضمن هذا الإطار ضمن ما يُسمّى بالحرب الباردة بين كفّتَي الميزان في العالم “الاشتراكية والرأسمالية” التي استطاعتا ضبط إيقاعات العالم السّياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية ومن جميع النواحي ضمن إطار البُعد عن الدخول في مجابهاتٍ عسكرية مباشرة بين كفّتَي الميزان لتجنّب وضع نهاية جديدة للعالم على أيدي البشر.

ولكن نتائج الحرب الباردة هذه كانت قد رجحّت باتجاه الكفّة الرأسمالية التي وضعت نهاية للكفّة الأخرى “الاشتراكية” والمتمثّلة بتفكيك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية أو ما يُعرَف باسم المعسكر الشرقي، وسرعان ما لجأت أميركا تحديداً بدفع الدول الأوربية إلى إنشاء ما يُسمّى الاتحاد الأوروبي “ونواته الأساسية كانت ألمانيا كجزء من أحلامها القديمة”، وضمّ الدول المُنشقّة عن المنظومة الشرقية إليه وتوسّعه وبشكلٍ دائم والسّيَر قُدُماً بإنشاء جهازٍ سياسيّ يقود هذا الاتحاد الجديد من رئيس ومجلس للبرلمان وكأنهم استطاعوا أن يشكّلوا دولة واحدة من مجموعة من الأشخاص تحكم باقي الدول الثمانية والعشرين التي تُعرَف اليوم بما يُسمّى بالاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت لم تبخل الإدارة الأميركية أو متزعّمة العالم الرأسمالي من التغلغل داخل منظومة الاتحاد السوفياتي القديم لتختلق وعبر ما يُسمّى بالثورات الملوّنة إيجاد هيئة سياسية حاكمة في تلك الدول تنصاع لأوامرها وتدور في فلكها كأسلوب جديد للتوصّل إلى تطويق روسيا الاتحادية ومنعها من التمدّد والانتشار ليس في دول العالم التي كانت تعتبر المدى الطبيعي السوفيتي لا بل ذهبت أبعد من ذلك بافتعالها حربَي الشيشان الأولى والثانية رغبة منها في تفكيك وتقسيم روسيا الاتحادية نفسها مستخدمة في ذلك الإسلام السّياسي تحديداً في هذه المناطق المدعومة من المملكة السعودية مستفيدة من الردّة الدينية الإسلامية التي طالما كانت شعوب تلك المناطق متعطّشة إليها في ظل تحجيم دور الأديان جميعها إبّان الحقبة السوفيتية فاستطاعت بذلك إشغال روسيا الاتحادية وإغراقها في حرب داخلية استمرّت لسنوات طوال في ظل وجود قيادة سياسية ضعيفة في روسيا آنذاك متمثّلة بالرئيس الروسي بوريس يلتسين.

انتابت في هذه الفترة الإدارة الأميركية نشوة النصر واعتبرت نفسها شرطي العالم الوحيد فذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير فقامت باختلاق حربَي الخليج الأولى والثانية لتكونا المدخل الرئيس لإنشاء قواعد أميركية في منطقة الخليج وتثبيت تواجدها هناك تحت عنوان حماية مصادر الطاقة في ظل عدم وجود رادع حقيقي لتصرفاتها الذي ترَافَق مع شللٍ تام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الذي ابتعد عن القيام بمهامه الأساسية المنوطة إليه وفق اتفاقية يالطا والمتمثّلة بالحفاظ على السلم والأمن الدولييَن إضافة بعدم التزامها بجميع الإتفاقيات التي تمّ التوقيع عليها مع الاتحاد السوفياتي قُبيل تفكيكه سواء في تقليص الأسلحة النووية أو في عدم تمدّد الناتو ليشمل الدول المنشقّة عن المنظومة الاشتراكية وعدم قربه من حدود روسيا بل على العكس فقد ضمّت الولايات المتحدة أغلب الدول الخارجة من المنظومة الاشتراكية أو الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي بداية ثم سرعان ما ضمّتها إلى حلف الناتو ونشرت فيها قواعد الناتو العسكرية التي تتزعمّها الولايات المتحدة الأميركية لحماية المصالح الأميركية بالدرجة الأولى في دول الناتو قبل حماية مصالح دول الناتو.
كما أنّها ذهبت أيضا إلى أبعد من ذلك فعملت إلى تقسيم دول المنظومة الاشتراكية نفسها كيغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وإعادة رسم الخريطة الجغرافية لأوروبا بما يتناسب ومخططاتها المستقبلية والتي بدأت تظهر ملامحها في أيامنا هذه والمتمثّلة بتحجيم أوروبا الغربية نفسها عبر إنشاء ممرّات اّمنة للطاقة التي ستغذّي في المستقبل القريب أوروبا تكون تحت السيطرة التامة لأميركا ممتدّة من دول البلطيق الثلاث فبولونيا والجبل الأسود وبلغاريا ورومانيا وبذلك تصبح أنابيب الطاقة “الأميركية” هي العصب الحقيقي للطاقة الواصلة إلى أوروبا والمنافس الوحيد للطاقة الروسية المتجهة إلى أوروبا ولزيادة هذه السيطرة عملت على وضع يدها على أوكرانيا التي تُعتبر الممر الرئيس للطاقة الروسية إلى أوروبا، وهذا كله يدخل ضمن إطار نقض وعدم تنفيذ إتفاقية يالطا للعام 1945 فيما يخص أوروبا والمنظومة الشرقية.

وفي منطقة الشرق الأوسط والتي تُعتبر بشكل عام المصدر الرئيس للطاقة في العالم وبعد أن وضعت أميركا يدها بشكل فعلي على مصادرها وخاصة في منطقة الخليج، ذهبت أبعد من ذلك وعبر افتعال ما يُسمّى بالربيع العربي كمحاولة منها لوضع اليد على جميع الدول في هذه المنطقة لتشمل ما يُسمّى سابقا بمناطق النفوذ السوفياتي اّنذاك هادفة من ذلك بسط السيطرة على جميع خطوط الملاحة البحرية التجارية بدءاً من خليج عدن على البحر المتوسط مروراً بقناة السويس والبحر المتوسط وصولا إلى البحر الأسود الذي هو في طبيعة الحال تحت نفوذها بشكل غير مباشر باعتبار تركيا عضواً في الناتو.

فأميركا وعبر ما يُسمّى بالربيع العربي أرادت السيطرة التامّة على القسم الشرقي من حوض المتوسط بما فيه شمال أفريقيا “مصر، تونس، ليبيا، المغرب، الجزائر” والذي فيما لو نجحت فيه لاستطاعت فرض هيمنتها المطلقة على العالم وعلى الطاقة في العالم تحديداً من المنبع إلى المصب. ولكن يقظة الدب الروسي ونهضته حالت دون تحقيق أميركا حلمها وإطباق طوقها على عالم الطاقة في العالم مما جعل الطرف الأميركي، الذي يبدو بأنه فشل تماماً في تحقيق أحلامه، إلى استخدام العنف المبطّن المتمثّل بالإرهاب الدولي الذي ترعاه وتدعمه أميركا وتموله دولٌ تدور في الفلك الأميركي مالكة وغير حاكمة لآبار النفط والغاز الأغنى في العالم مستخدمة في ذلك الإسلام السياسي الذي اخترعته حليفتها بريطانيا تحت مُسمّى الإخوان المسلمين والذي اتخذ تسميات تتلائم وضرورات المرحلة كدولة الخلافة أو تنظيم الدولة أو داعش أو فروع “القاعدة” في منطقة الشرق الأوسط والتي تُعتبَر جميعها عباءات تخفي تحتها التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي أنشأته بريطانيا ورعته لعقود طوال وحان وقت استخدامه بحسب وجهة النظر الأميركية بعد أن اتخذت قراراً مهماً وخاصة بعد خسائرها الفادحة في العراق إبان احتلاله في العام 2003 بعدم خوض معارك مباشرة وإنّما إدارة هذه الحروب تحت مسمّيات مختلفة فتارةً إقامة الخلافة وتارةً أخرى نشر الديمقراطية والقضاء على الدكتاتوريات في منطقة الشرق الأوسط.

بهذا الشكل أوصلت الولايات المتحدة الأميركية العالم أجمع إلى مرحلة مشابهة تماماً لما شهده العالم إبان الحرب العالمية الثانية وقبيل التوقيع على إتفاقية يالطا التي وضعت حداً ونهاية للحرب العالمية الثانية وأصبح العالم اليوم على مفترق طُرق خطير للغاية فإمّا الاستمرار في هذه الحرب القذرة التي لم ولن ينجو منها أحد على الإطلاق وربما تؤدي في حال استمرارها إلى استخدام أسلحة من شأنها أن تمحي دولة أو دول من الخريطة الجغرافية للعالم أو ربما تكون النفخة في الصْور التي حدثتنا عنها جميع الأديان عبر الأنبياء و الرسل، أو أن يكون لدى الإدارة الأميركية العقل والدراية والحكمة والمبادرة إلى عقد اتفاقية دولية جديدة شبيهة باتفاقية يالطا للعام 1945 التي ربما تضع حدّاً لمعاناة واّلام الشعوب التي تضرّرت بفعل الهمجية الأميركية وحبّها ورغبتها وأحلامها في السيطرة على العالم ليكون مبدأ تقاسم المصالح والاحترام المتبادل لمصالح الدول والشعوب وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول المبدأ الرئيس لعقد مثل هذه الاتفاقية.

وباختصار فإنّ الرئيس بوتين كان ومن خلال كلمته في اجتماع “نادي فالداي” المنعقد في مدينة سوتشي الروسية في شهر تشرين الأول الماضي قد وضع خارطة الطريق لهذه الاتفاقية والتي من أهم نقاطها:
1- إعادة تفعيل دور مجلس الأمن الدولي لتنفيذ المهام الأساسية المنوطة به وهي الحفاظ على السلم والأمن الدولييَن وإعادة النظر في جميع الهيئات المنبثقة عن الأمم المتحدة.
2- الانتهاء من الاستثمار في الإرهاب كوسيلة لتحقيق الأهداف الجيوسياسية وضمان المصالح.
3- إيجاد جبهة دولية حقيقية لمكافحة ظاهرة الإرهاب.
4- الحد من التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
5- الحد من انتشار الناتو تحت ذرائع مختلفة.

باختصار يمكن القول بأن الهدف يبقى من عقد اتفاقية عالمية جديدة هو الإعلان عن عالم جديد وفق المُعطيات العالمية الجديدة المنطلقة من عالم متعدد الأقطاب بمعطياته الجديدة تحكمه تفعيل المصالح المشتركة لجميع الأطراف ويقوم على مبدأ الاحترام المتبادل لمصالح جميع الدول، وهذا بكل تأكيد سينتج عنه بالدرجة الأولى إعادة بناء المؤسسة الدولية التي ظهرت كنتيجة لاتفاقية يالطا للعام 1945 والمُسمّاة بالأمم المتحدة لتأخذ دورها الحقيقي والحيادي أمام مشاكل الشعوب وتطلّعاتهم واّمالهم وسينتج عن ذلك أيضاً توسيعاً لعدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي ليشمل تمثيلاً أكبر للدول الفعّالة في عملية الحفاظ على السلم والأمن الدولييَن، فمن المتوقع أن يشمل هذا التوسيع في مجلس الأمن دولا مثل اليابان وألمانيا والهند والبرازيل الذي من المفترض أيضاً بعد إدخال هذا التوسيع العمل على حل المشاكل العالقة في العالم ومن أهمها حل القضية الفلسطينية والاعتراف بالدول التي نشأت كنتيجة لسقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشرقية وتوقيع إتفاق سلام بين روسيا واليابان ووضع أطر عامة لتنظيم العلاقات الدولية في ظل المتغيرات الجديدة للعالم وخاصة في مجال الطاقة.

فهل ستنصاع الولايات المتحدة الأميركية في ظل انتخاب رئيس جديد لها لأصوات شعوب العالم التي عانت خلال الفترة ما بين سقوط الاتحاد السوفيتي إلى يومنا هذا من عنجهية القطب الواحد فدفعت ثمناً باهظاً من الدماء والخراب والدمار لم يأتِ حتى على الولايات المتحدة نفسها بما كانت تأمل به.
***

%d8%ac%d9%88%d8%b2%d9%8a%d9%81-%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%86-%d9%85%d8%b9-%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d9%88%d8%b2%d8%b1%d8%a7%d8%a1-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d8%aa%d8%b4
جوزيف ستالين مع رئيس وزراء بريطانيا تشرشل