Beirut weather 17.41 ° C 16 Apr 2025 - 20:22:33
تاريخ النشر April 7, 2025
A A A
هل يُنقذ انقلاب ترامب على العولمة الاقتصاد الأميركي من أزماته البنيوية؟
الكاتب: حسن حردان - البناء

مَن يتابع ويدقق في ما يقوم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب من عودة إلى سياسات الحمائية عبر رفع الرسوم الجمركية على أغلب المواد والسلع المستوردة من دول العالم، يدرك جيداً انه أمام انقلاب شامل على سياسات العولمة التي قادتها أميركا اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، لفرض النموذج الأميركي النيوليبرالي باعتباره الوصفة الأفضل للعالم، لكن بهدف إجبار الحكومات على إجراء إصلاحات هيكلية تربطها اقتصادياً ومالياً بالمركز الرأسمالي الأميركي بما يسهّل على واشنطن التحكم بها، وبالتالي تحويل القرن الواحد والعشرين إلى قرن أميركي تتربّع الإمبراطورية الأميركية على عرشه وتتحكم بالعالم أجمع وتجعل دوله أجراماً تدور في الفلك الأميركي.. على أنّ الهدف الأميركي الأساس من هذه السياسة السعي الى حلّ المشكلة البنيوية التي بدأ يعاني منها الاقتصاد الأميركي منذ ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي والتي تتمثل في ارتفاع كلف الإنتاج وتراجع حصة أميركا من الناتج العالمي بعد دخول منافسين جدد في الأسواق العالمية مثل الصين.. وهو ما اضطر الصناعات الأميركية إلى نقل مصانعها إلى دول مثل إندونيسيا والصين وكوريا والهند إلخ… حيث كلف الإنتاج منخفضة من حيث اليد العاملة والمواد الأولية.. لكن عولمة الاقتصاد العالمي وفتح الحدود أمام انسياب السلع وحركة رؤوس الأموال زاد من حدة المنافسة الاقتصادية وادّى إلى مزيد من تراجع حصة أميركا من الناتج العالمي، وبالتالي لم تؤدّ العولمة إلى تحقيق هدف أميركا بحلّ الأزمة البنيوية لاقتصادها، ولهذا لجأت إلى شنّ الحروب العسكرية للسيطرة على موارد الطاقة من ناحية، وسياسة فرض العقوبات الاقتصادية ضدّ الدول التي تتحدّى الهيمنة الأميركية من ناحية ثانية، فيما الحروب أدّت إلى نتائج معاكسة حيث تكبّدت أميركا في حربي العراق وأفغانستان خسائر قدّرت بستة تريليونات دولار، مما انعكس في زيادة المديونية الأميركية والعجز في الميزانية العامة…
أما حرب أوكرانيا ـ روسيا فإنها لم تؤدّ إلى إضعاف روسيا وإخضاعها كمقدمة لتطويق وتحجيم الصين وتفكيك مجموعة «بريكس»، كما كان يخطط الغرب بقيادة أميركا، فيما الإنفاق الأميركي الغربي على هذه الحرب المكلفة جداً أدى إلى زيادة الأعباء والأزمات المالية والاقتصادية في أميركا والدول الغربية، مما جعل ترامب يضع ضمن أولوياته الرئاسية العمل على وقف حرب أوكرانيا التي باتت تستنزف أميركا..
كما أنّ سياسة العقوبات فإنها لم تنجح في تطويع إيران وروسيا وفنزويلا وغيرها من الدول للاملاءات الأميركية، ونجحت هذه الدول في بناء علاقات اقتصادية مع دول الشرق والحدّ من أضرار العقوبات.. وهكذا فإنّ أهداف الاستراتيجية الأميركية من عولمة الاقتصاد، وشن الحروب، وفرض العقوبات الاقتصادية، لم تنجح في إلغاء او القضاء على منافسي أميركا، وإخراجها من أزماتها الاقتصادية البنيوية، ووجدت أميركا نفسها مع تسلّم ترامب مقاليد الحكم مرة ثانية، أمام تحدي بلوغ الأزمة الاقتصادية والمالية مستوى نوعي لم يعد بالإمكان التعايش معه، وأنه لا بدّ من أعادة نظر جذرية في سياسة أميركا الاقتصادية تقوم على الخروج من العولمة والعودة إلى سياسات الحمائية في محاولة لإعادة توطين الصناعة في الداخل الأميركي وحماية الإنتاج الوطني، بهدف معالجة أزمة العجز التجاري ووضع حدّ لعجز الميزانية البلغ أكثر من تريليون دولار، وأزمة المديونية التي تجاوزت عتبة الـ 35 تريليون دولار…
غير انّ تحوّل ترامب نحو الحمائية وانقلابه على العولمة عبر العودة إلى فرض الضرائب الجمركية المرتفعة أحدث صدمة وفزعاً في الأسواق وأدى إلى نتيجتين سريعتين:
النتيجة الأولى، اضطراب في البورصة تسبّب بتراجع كبير في قيمة الأسهم لكبريات الشركات التي تدنّت أسهمها وقدّرت خسائرها في اليومين الأولين لقرار ترامب رفع الرسوم الجمركية بنسبة 10 بالمئة على معظم السلع، بين 6 و 7 تريليون دولار، الأمر الذي دفع دول العالم إلى الردّ بالمثل برفع الرسوم على السلع والمواد المستوردة من الولايات المتحدة، وأدّت هذه السياسة الترامبية إلى ارتفاع الأسعار في أميركا، الأمر الذي دفع الأميركيين إلى النزول إلى شوارع المدن الأميركية احتجاجاً.. وسط انتقادات واسعة لهذه السياسة الاقتصادية من قبل الديمقراطيين وحتى الجمهوريين الذين طالبوا ترامب باعتماد سياسة رسوم جمركية تقوم على التعامل بالمثل…
من هنا فإنّ هذه السياسة الترامبية والنتائج الأولية التي أدت إليها إنما تعكس المستوى النوعي الذي بلغته الأزمة المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة، والصعوبات التي تواجهها في ايّ اتجاه ستسلكه، فالإبقاء على السياسة الحالية سيؤدّي إلى تفاقم الأزمة، ومحاولة العودة إلى سياسة أميركا أولاً، عبر اعتماد الحمائية سيولد خسائر كبيرة للشركات الأميركية، وارتفاع الأسعار وتراجع مستوى معيشة الأميركيين..
لكن الأمر الأكيد أنّ أميركا لن يكون بإمكانها العودة إلى ما كانت عليه من مستويات دخل مرتفعة، عندما كانت حصتها من الناتج العالمي تتجاوز الـ 50 بالمئة، أما اليوم فإنّ هذه الحصة باتت بين 20 و24 بالمئة، بسبب ظهور منافسين اقتصاديين أقوياء مثل الصين التي أصبحت حصتها من الناتج العالمي 18 بالمئة، الأمر الذي يفرض على أميركا، عاجلاً ام آجلاً، تقليص نفقاتها لا سيما على صعيد الميزانية العسكرية البالغة 700 مليار دولار، بعدما أوقفت مساعدات وكالة التنمية الأميركية البالغة ثلاثة مليارات دولار، والتي كانت إحدى وسائل تعزيز نفوذ أميركا في الكثير من دول العالم في إطار سياسة القوة الناعمة، مما سينعكس بإضعاف نفوذها العالمي.