Beirut weather 32.43 ° C
تاريخ النشر April 14, 2025
A A A
هل يمتلك لبنان المناعة ضد الحرب الأهلية؟
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”:

بين التهويل المبالَغ به بخطر الحرب الأهلية الداهم كمدخل لترويج الفدراليّة والتقسيم، أو الضغط على المقاومة لإلقاء سلاحها، والتطمين المفرط بأن لبنان صار عصياً على الحرب الأهليّة للتهرّب من استحقاقات إيجاد صيغة وطنية تُخرج لبنان من مرحلة الاعتماد على الهياكل الطائفية كأساس لبناء الوطن والدولة، وإنكار هذا البناء المشوّه للوطن والدولة كان السبب الدائم لخطر الحرب الأهلية، يطوي لبنان نصف قرن من عمره، وقد طوى لبنانيون ولبنانيات حيواتهم في أتون حرب أهلية تجدّدت مراراً وبقي شبحها يلاحق لبنان واللبنانيين.

انشغل الزعماء اللبنانيّون عن بناء الوطن والدولة بالصراع على السلطة وتنظيم أمورها وتقاسم مناصبها ومكاسبها، وارتاحوا لفعل ذلك باسم طوائفهم، لأنه يوفر تشكيل الجماعة الخائفة من اللبناني الآخر، ومن قلبها صعود الجماعة الطامحة لملء مناصب السلطة المخصّصة لكل من الطوائف، فبقي الوطن الوحيد الذي يعرفه اللبنانيون هو الذي صنعه الأخوان الرحباني وفيروز، ومعه الأرزة وقلعة بعلبك وجمال الطبيعة، يتغنّى بها اللبنانيون بغياب أي تفاهمات عميقة على تاريخ الوطن وذاكرته الجماعيّة وهويّته الإقليمية وموقعه في جغرافيا المنطقة.

منذ إعلان الجنرال غورو قرار تقسيم سورية وتشكيل خريطة لبنان الكبير عام 1920، صاغ اللبنانيون تعريفاً للوطن بما وصفه المفكر جورج نقاش بنفيين قامت عليهما صيغة 1943 لدولة الاستقلال، التي تقول بنفي المسيحيين للتمسك بالانتداب الفرنسي ونفي المسلمين بالسعي لدمج لبنان بدولة الوحدة العربية، بعدما كانت سنوات ما بعد إعلان لبنان الكبير قد شهدت تمسكاً مسيحياً بالانتداب وتوقاً إسلامياً نحو دولة الوحدة، لكن جورج نقاش حسم الأمر بالقول إن نفيين لا يصنعان وطناً، وبنيت الدولة التي يربط جناحيها المسلم والمسيحي هذان النفيان على تقاسم للسلطة بين الجناحين المسلم والمسيحي، وكأن كلاً منهما دولة مستقلة في قلب الدولة التي تجمعهما، وأمام كل عاصفة في الإقليم كانت هذه الشراكة عرضة للاختبار، وكان اللبنانيون يستسهلون الاحتراب، فتدخل العناصر المشجعة من الخارج تستثمر على توظيف الحرب والاستثمار فيها، ليتولى اللبنانيون تسويق نظرية حروب الآخرين على أرض لبنان، بينما هي حروب اللبنانيين المعروضة للبيع والإيجار.

جاء اتفاق الطائف قبل خمسة وثلاثين عاماً، ليوسّع دائرة تقاسم السلطة ويخلق قاعدة اجتماعيّة أوسع لتقاسم المكاسب والمناصب، فضاقت دائرة المتضرّرين من النظام الطائفي، واختار الشباب المستبعَد من أولويات هذا النظام الهجرة ليرتاحوا من ظلم النظام ويريحوا النظام من القلق منهم، وعندما تعرّض لبنان لأخطر اختبار لوحدته مع الاجتياح الإسرائيلي ورسب في الامتحان، لكنه كسب نشوء مقاومة ترفض الانخراط في استثمار قوّتها في معادلات وموازين الطوائف، بحيث شكّلت بوليصة تأمين بوجه خطر الحرب الأهليّة، ونشأت مؤسسة الجيش على عقيدة العداء للاحتلال، لتشكل صمام أمان حماية لبنان من خطر الحرب الأهلية كأداة يستخدمها الخارج لضرب المقاومة، بعدما سقطت نظرية التصادم بين الجيش والمقاومة.

كانت المناعة الوحيدة التي امتلكها اللبنانيّون ضد الحرب بعيدة عن تصدّيهم العبثي لبناء الوطن والدولة، وهي مناعة الخوف من الحرب وعدم استسهال خوض غمارها مجدداً من جهة، ومناعة فرضت على اللبنانيين وهي عدم استسهال الخارج الاستثمار في الحرب مجدداً. والحرب تحتاج إلى عبث الداخل وعبث الخارج معاً، لكن لا أحد يضمن بقاء هذا النوع من المناعة إلى الأبد، ما يجري توظيف الوقت الذي تمنحه لحل المعضلات الأساسية، وهي بناء الوطن والدولة.

بمقدار ما كان اتفاق الطائف تكريساً للنفيين اللذين قام عليهما الكيان السياسي لدولة الاستقلال، بحيث لم تحسم الهوية العربية ما كان عليها حسمه، بحيث صارت المائدة العربية تتيح اختيار عروبة التطبيع بمثل ما تتيح عروبة المقاومة، لكن اتفاق الطائف فتح نافذة لبنان الوطن والدولة بدعوته لاعتبار إلغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً، ودعوته لتشكيل هيئة وطنية لهذه الغاية تضع خطة مرحلية، رسم اتفاق الطائف بعض معالمها، مع الدعوة إلى قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف، بالإضافة إلى جملة إجراءات مثل إلغاء طائفية الوظيفة ما دون الفئة الأولى وعدم تخصيص طائفة بوظيفة، ولعل هذه الإجراءات كانت أهم ما تمّ إهماله من اتفاق الطائف، وقد تسبب هذا الإهمال بجعل الوظيفة العامة حصة طائفية يرتبط نيلها بالانتظام في هيكل اللعبة الطائفية بأشد صورها بشاعة والتسبّب بتعميم الفساد.

أكد رئيس الجمهورية العماد جوزف عون على عناوين الطائف الإصلاحية في خطاب القَسَم، وتحدّث عنها رئيس الحكومة مراراً قبل تكليفه باعتبارها البرنامج الإصلاحي الضروري، وتضمن البيان الوزاري إشارات بهذا الاتجاه. ويعيش اللبنانيون نقاشاً مفتوحاً حول سلاح المقاومة الذي قال خطاب القَسَم والبيان الوزاري أنه سوف يكون موضوع حوار حول استراتيجية وطنية للدفاع. وهذه الفرصة لحوار وطني يدور حول إلغاء الطائفية السياسية ووضع استراتيجية وطنية للدفاع، يفترض أن لا تضيع وأن لا يخشاها اللبنانيون، وأن لا يتردّد المسؤولون في المبادرة إليها، ولعل السير بمسارَي الحوار بالتوازي يسهّل المهمة بحيث يخدم تقدّم أحد المسارين التقدم في المسار الآخر.

مَن يريد بناء مناعة راسخة تصبح معها الحرب الأهلية مجرد ذكرى مؤلمة، عليه التقدّم بخريطة طريق لبناء دولة المواطنة ووطن لجميع أبنائه، دولة تحمي وتدافع ودولة لا تميّز بين أبنائها على أساس الدين والمذهب.