Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر October 30, 2016
A A A
هل يسير لبنان مع العهد الجديد نحو التطرف الطائفيّ؟
الكاتب: الأب صلاح أبوجوده اليسوعي - النهار

صدرت مقالتان الخميس 27 تشرين الأول، الأولى في جريدة “النهار” بقلم الأستاذ جهاد الزين بعنوان “النخبة المسيحية اللبنانية في دورها الجديد”، والثانية في جريدة “السفير” بقلم الأستاذ نصري الصايغ بعنوان “انتخاب الجنرال وانتصار “الربيع الطائفي”، تختصران الإشكالية التي يتأسس عليها عهد رئاسي جديد، بعيداً من البهجة بانتهاء الشغور الرئاسيّ، ولعبة تغيير التحالفات السياسية المألوفة وخلفياتها المتصلة بمصالح ضيقة، وعن لعبة الكواليس الإقليمية والدولية التي لا يحصل أمر محلي من دون إذن لاعبيها الأقوياء.

يشير الأستاذ جهاد الزين في مقالته إلى ضرورة أن يتحاشى الرئيس الجديد، أيًّا كان، الانزلاق في مفهوم “سياسويّ صرف” لفكرة القوة الطائفية وضعفها. ويدعو، في المقابل، إلى اعتناق استراتيجية أساسها معنى جديد لـ”الوطنية اللبنانية” يضطلع فيه الحضور المسيحي بدور ريادي. وفي ضوء هذه الاستراتيجية المطلوبة، يَطرح السؤال البديهي الآتي: “هل الطبقة السياسية المسيحية الحالية عبءٌ على الدور المسيحي النوعي في المعنى الموعود للوطنية اللبنانية أم داعم له؟”

يأتي الجواب عن هذا السؤال الجوهري والمصيري بطريقة غير مباشرة في مقالة الأستاذ نصري الصايغ، حيث يرد أنّ زمن الطائفية العرجاء قد انتهى، وبدأ “زمن الطائفية الخالصة… غداً، لبنان طائفي مئة في المئة”.

ويكمن سبب هذه النتيجة المأسوية في أن المسار السياسي الذي سلكه السياسيون المحليون الأقوى، بصرف النظر عن دور تحالفاتهم الإقليمية، منذ توقيع اتفاق الطائف، قد تبنى نزعة طائفية مرضية، أي غريبة عن النزعة الطائفية الوسطية التي قام عليها لبنان الميثاق والتي تُبقي باب إمكانية إلغاء الطائفية مفتوحاً. لذا، بلغت البلاد حدّ منطق الحق في الحكم للأقوى في طائفته. لذا، يصدق الأستاذ نصري الصايغ عندما يستنتج أنّ “كل ممثل طائفي عليه أن يحظى بأصوات من طائفته. السطو مستحيل ويعاقَب برفع صوت الميثاقية. سيعلو شعار “ما لنا هو لنا، وما لكم هو لكم”…”إنه زمن النقاء الطائفي. سيكتمل نصابُه إذا تمكّنت التسوية الراهنة، أن تبلغ مرتبة إبرام قانون انتخابي “أرثوذكسي”، يكفل تنقية اللوائح من أي خرق. فلكل طائفة حق الحصرية في التمثيل. وعلى كل نائب أن يلتحق بقطيعه”. ولا حاجة إلى القول إن هذا المنطق سيؤدي إلى صراعات إلغاء لا تنتهي، ليس بين الطوائف فحسب، بل داخل كل طائفة أيضاً. إذاً، فالجواب عن السؤال الذي طرحه الأستاذ جهاد الزين هو، ويا للأسف، سلبيّ: إن الطبقة السياسية المسيحية (وغير المسيحية) عبء على الدور المسيحي الوطني الصرف (وكل دور وطني صرف آخر).

كُتب الكثير عن الطرق التي تؤول إلى تطوير النظام الديموقراطي التوافقي اللبناني بحيث يتجاوز تدريجياً الانقسامات المذهبية والطائفية والمناطقية، بهدف الوصول إلى قيام نظام ديموقراطي حديث يريده مواطنون بكل معنى الكلمة. وكُتب الكثير عن أن تعديلات اتفاق الطائف الدستورية أنتجت عجزًا بنيوياً في آليات الحكم، يجب تصويبها. وكُتب الكثير أيضاً عن أهمية تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية بغية حماية التركيبة المجتمعية الضعيفة أصلاً. ولكن مسار الأمور لم يذهب أبداً في هذه الاتجاهات التي رسمها مفكرون كثر يتمتعون بحس وطني شديد. فهل يجب أن يُلقى اللوم دائماً على القوى الخارجية؟ أم يجب أن تُلام الطبقة السياسية الحالية الفاعلة منذ ما بعد توقيع اتفاق الطائف؟ وهل سلكت تلك الطبقة الاتجاهات الخاطئة عن عمد أو عن جهل أو عن لامبالاة؟

إن نظرة موضوعية إلى المحطات السياسية والوطنية الأساسية في أثناء العقود القليلة المنصرمة، تبين أن النزعة الطائفية المتطرفة قد طبعت المشهد السياسي، ولا يهم إن كان هذا بسبب نتائج اتفاق الطائف؛ إذ ما كان “الطائف” ليمنع الطبقة السياسية من تبني خطاب وطني صادق لا طائفي. وفي الواقع، كان لجوء قيادات سياسية أساسية متواتراً إلى خطب الابتزاز المتبادل، وإعادة تعميم الأحكام السابقة والأنماط المصوّرة عن “الخصم” التي لا تزال حيّة في المخيلة الشعبية، فضلاً عن إثارة هواجس ملازمةً الشعور الطائفي الذي يغلب الشعور الوطني المفتقر إلى عناصر صلبة جامعة. وهذا الأمر كان يؤدي بتصاعد إلى تحوّل الجماعات الطائفية إلى جماهير طائفية، بالمعنى الذي يتكلّم عليه علم نفس الجماهير.

لقد كان الخطاب السياسي في العقود المشار إليها ينزع إلى توظيف متطرف للهواجس الطائفية والأحكام السابقة المذكورة، بطريقة منهجية تصاعدية وصولاً إلى خلق حالة نفسية في أوساط الطائفة الشعبية تمتاز في آن واحد بالشعور الشديد بالظلم والقوة، والاستعداد للسلوك المتهوّر، وغياب التمييز الحكيم، والتضحية بالعقل لصالح العاطفة. فكان تحوّل الجماعة الطائفية التي تقولب أصلاً الأفرادَ تبعاً لعناصر هويتها الثقافية بالمعنى الواسع للكلمة، إلى “جمهور” متراصٍّ يتّسم بالهجومية والتأهب للخضوع غريزياً لمن يدّعي القدرة على خلاصه وتحصيل حقوقه وتحقيق حريته ورفع شأن طائفته.

وبهذا المعنى يقول غوستاف لوبون: “ليست الحاجة إلى الحرية التي تهيمن على روح الجماهير، بل العبودية” (علم نفس الجماهير). فتكوين الجمهور يترافق والميل إلى طاعة الزعيم من دون نقاش ولا تذمر. إذ المعتقد يحل محل المعرفة بحسب تعريف أفلاطون. ذلك أن مقاييس المعرفة هي الحقيقة التي يمكن التحقق من صحتها من خلال الخبرة، في حين أن كلام الزعيم يغذّي المعتقد بطريقة تعبوية متطرفة، ويصبح مقياس السلوك والحجة التي لا جدل بشأنها.
ولا عجب في مسار تحوّل الجماعة الطائفية إلى جمهور طائفي، أن يصبح الزعيم محط عبادة متزايدة، ولا سيما إذا تميزت شخصيته بإرادة قوية جذابة وموهبة خطابية يربطها بفكرة يعتنقها بشدة أو يقنع نفسه بها حتى الثمالة – أي يتخلى عن العقلانية في اعتبارها، وبقدرة على التعبير عنها بخطاب متكرِّر مغالٍ يثير عواطف الجمهور وغرائزه، أيْ خطابٍ خالٍ من كل برنامج منطقي مؤسس على معطيات متينة ومنفتح على النقاش العام الموضوعي بغية التوصل إلى توافق كما تفترضه مقتضيات العيش معاً.

إن الجمهور الذي يقضي لاشعوريّاً في هذا الانحراف على الحس بالمسؤولية الوطنية وبضرورة الاعتدال من أجل الحفاظ على الحياة العامة والعيش معاً، يصبح متقلّبًا بين موقفَين أساسيين تبعاً لمصالح الزعيم وإيحاءاته، فيمكن أن ينجر إلى السلبية إلى حدّ اللجوء إلى العنف كما سبق القول، أو إلى الهمود أو السكينية التامة.

بالطبع، تتوافق الفكرةُ التي يعتنقها الزعيم مبالغاً في بثها وعناصرَ نفسية وثقافية خاصة بالطائفة، أي لها صلة بما يُخاطِب بطريقة لاشعورية أو عاطفية جماعةَ الطائفة، وتخلق روابطه الذاتية، وإن على نحوٍ غامض. لذا، لأول وهلة، تبدو تلك الفكرة التي يعبّر عنها الزعيم بموهبة خطابية نارية وإرادة قوية مسألةَ حياة وموت للجمهور. وبقدر ما يضطرم خطابُ الزعيم حدّة، تنتشر عدوى الإيحاء انتشاراً أوسع، ويجد أعضاءُ الجماعة الطائفية الذين لم ينجرّوا بعدُ إلى مسار التحوّل إلى جمهور أنفسَهم أسرى تلك الحالة، وغير قادرين على التأثير في تفاقمها، وربما عرضة لاتهامٍ بالخيانة أو الجبن أو قصر النظر. في حين أن الذين ينساقون في عملية التحوّل، يمسون مسكونين بخطاب الزعيم وميّالين إلى نشره والدفاع الأعمى عنه، بل المبالغة فيه أيضًا. إنهم يكوّنون جمهوراً، تبعاً لعلماء النفس، يعيش كمن في حالة نومٍ مغناطيسي.

ما العمل؟ تعود أنظار الذين يرفضون الاستسلام لليأس إلى النظر إلى المؤسسات التربوية علّها تُضاعف من تفعيل دورها لزيادة وعي المواطنين وخلق روح وطنية جامعة، كما النظر إلى مؤسسات المجتمع المدني، وقادة الفكر الوطني الديموقراطي.
*

أستاذ في جامعة القديس يوسف