Beirut weather 24.41 ° C
تاريخ النشر December 23, 2024
A A A
هل يحقق الرئيس الجديد انتصار لبنان الاقتصادي؟
الكاتب: سوليكا علاء الدين

كتبت سوليكا علاء الدين في “لبنان الكبير:

بعد حرب مدمّرة طالت البشر والحجر على حد سواء، يترقب اللبنانيون يوم التاسع من كانون الثاني، الموعد المقرّر لجلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، عقب فراغ رئاسي دام أكثر من عامين. وفي خضم الأزمات المستعصية التي يغرق فيها لبنان، أصبحت الحاجة إلى رئيس قوي وفاعل ضرورة ملحة، لا سيما في ظل التحديات الكبرى التي تعيشها البلاد. إذ إن المسؤولية الأولى التي تنتظره تكمن في إعادة لبنان إلى مسار التعافي، في وقت يشهد فيه تدهوراً حاداً في المؤشرات الاقتصادية كافة. فقد تكبدت مختلف القطاعات خسائر جسيمة تجاوزت الـ 20 مليار دولار، وسط توقعات بتفاقم هذه الخسائر مع صدور التقييمات النهائية والتقارير الاقتصادية، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد ويجعل عملية النهوض واستعادة الاستقرار أكثر إلحاحاً وصعوبة.

بين الانكماش والتعافي
وفي أحدث التوقعات، حذّر بنك “ستاندرد تشارترد” من انكماش الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي للبنان بنسبة 5 في المئة في العام 2024، جراء تأثير الحرب الممتدة بين إسرائيل و”حزب الله” على الاقتصاد اللبناني، ما أسفر عن خسائر مادية تقدّر بنحو 3.5 مليارات دولار، بالاضافة إلى خسائر قطاعية تصل إلى 5 مليارات دولار في قطاعات السياحة والزراعة والرعاية الصحية والتعليم. ومع ذلك، توقع البنك أن يشهد النشاط الاقتصادي انتعاشاً بعد اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني، مدعوماً بالتمويل الخارجي لإعادة الاعمار والعودة الموسمية للمغتربين اللبنانيين، وسط تحسن في الآفاق الأمنية.

واعتبر البنك أن التعافي الشامل سيكون بعيد المنال، إذ إن تعافي قطاعي السياحة والخدمات ليس كافياً لإعادة الناتج الاقتصادي إلى ذروته التي بلغها في العام 2018، والتي كانت 55 مليار دولار. وبناءً عليه، تم تقدير الناتج المحلي الاجمالي الاسمي للبنان بنحو 22 مليار دولار في 2024، مع توقعات بنمو الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بمعدل 1.5 في المئة في 2025 و3 في المئة في 2026. كما أكد أن التعافي الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي المستدام يتطلب اختراقاً سياسياً محلياً لحل الجمود المستمر منذ خمس سنوات بشأن خطة التعافي الاقتصادي.

تقلبات التضخم وتحديات العجز
وفي ظل تزايد اعتماد الاقتصاد على الدولار، توقع التقرير انخفاضاً ملحوظاً في معدلات التضخم، بحيث من المتوقع أن تتراجع من 60 في المئة في 2024 إلى 25 في المئة في 2025، بدلاً من 100 في المئة كما كان يُتوقع سابقاً. وأشارت التوقعات إلى أن هذا التراجع في معدلات التضخم من المرجح أن يستمر في العام المقبل، في ظل الغموض الجيوسياسي الكبير، بحيث تعمل السلطات على احتواء تقلبات سعر الصرف للحد من تأثيراتها على مؤشر أسعار المستهلك. ومع ذلك، توقعت أن يشهد معدل التضخم ارتفاعاً مجدداً ليصل إلى 75 في المئة في العام 2026.

علاوة على ذلك، توقع التقرير أن يتسع العجز المالي من 2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي إلى 3 في المئة في عامي 2024 و2025، على الرغم من التوقعات باستمرار إعادة التوازن المالي في العام المقبل، بحيث يشير مشروع موازنة 2025 إلى فائض أولي بنسبة 1.3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، بالاضافة إلى موازنة متوازنة. كما من المتوقع أن يتسع عجز الحساب الجاري من 15 في المئة في 2024 إلى 20 في المئة سنوياً خلال 2025-2026. من ناحية أخرى، ارتفع السعر المتوسط لسندات اليورو بوند اللبنانية بنسبة 30 في المئة في السوق الثانوية بعد تصاعد المواجهة بين “حزب الله” وإسرائيل؛ مُشدداً على أن إعادة التوازن السياسي المحلي قد تساهم في تحسين آفاق إعادة الإعمار والإصلاحات، خصوصاً إذا تمكن لبنان من تأمين تمويل خارجي لإعادة إعمار المناطق المتضررة.

إذاً، يمر لبنان بمرحلة حرجة مليئة بالتحديات والأزمات على مختلف الأصعدة. فما هي أبرز التحديات الاقتصادية التي ستواجه الرئيس الجديد للجمهورية؟

الرئيس الجديد.. وعقبة الاقتصاد
يُعد إطلاق عملية إعادة الإعمار من أبرز القضايا الشائكة التي تواجه لبنان في هذه المرحلة الصعبة، والتي تقع مسؤوليتها على عاتق الرئيس المقبل، خصوصاً في ما يتعلق بحشد التمويل اللازم لتحفيز الجهات المانحة الدولية على المساهمة في عملية الاعمار. وأتى ذلك في ظل إفلاس الدولة، والدمار الواسع الذي طال البنية التحتية، إضافة إلى الفراغ المستمر في المؤسسات الدستورية، وغياب الثقة العربية والدولية في نزاهة السلطات اللبنانية، ما يشكل عقبات رئيسية قد تُعرقل سير هذه العملية. لذا، يُصبح من الضرورة إعادة بناء الثقة على المستويين الاقليمي والدولي لضمان نجاح المسار الاصلاحي وإعادة الاعمار.

كذلك، يشكل تأليف حكومة جديدة قادرة على دفع عجلة الإصلاح الاقتصادي أولوية قصوى للرئيس الجديد. لكن الأمر يتجاوز تشكيل حكومة عادية، بل يستدعي تشكيل حكومة وحدة وطنية تمتلك خطة إنقاذ شاملة وتحظى بتوافق سياسي واسع، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً في ظل الانقسامات السياسية العميقة التي يعاني منها لبنان. يجب أن تكون هذه الحكومة قادرة أيضاً على تنفيذ الاصلاحات الهيكلية اللازمة لاستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، ما يمهد الطريق لإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي ويعزز قدرة لبنان على جذب الاستثمارات الأجنبية والحصول على الدعم المالي المنشود الذي يحتاج إليه للمضي قدماً في عملية التعافي.

تحدٍ آخر يواجه الرئيس الجديد يتمثل في شغل عدد من المناصب القيادية الشاغرة التي تؤثر بصورة مباشرة على مفاصل الدولة الأساسية، وفي مقدمها منصب حاكم مصرف لبنان، الذي يُعد ركيزة استقرار النظام المالي والنقدي في البلاد. ففي 31 تموز 2023، انتهت ولاية رياض سلامة بعد ثلاثين عاماً من توليه المنصب، من دون أن يُعين خلف أصيل له، وذلك بسبب التشرذم الحاد بين القوى السياسية والشلل المؤسسي الذي أعاق عملية انتخاب حاكم جديد، خصوصاً في ظل رفض بعض الأطراف السياسية لأي تعيين قبل انتخاب رئيس للجمهورية.

وتُعتبر الأزمة المالية، وخصوصاً ملف المصارف والمودعين، من أبرز القضايا المعقدة التي تتطلب حلاً جذرياً لإصلاح القطاع المصرفي. يتطلب ذلك وضع خطة شفافة وعادلة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، تركز على استعادة ثقة المودعين وتوزيع الخسائر بصورة منصفة بين المودعين والمصارف والحكومة، مع إعطاء الأولوية لحماية الفئات الأكثر ضعفاً. يجب أن تتناغم هذه الخطة مع خطط إعادة الإعمار، إذ إن لبنان في أمس الحاجة إلى قطاع مصرفي قوي يكون دعامة أساسية لاستعادة الثقة في النظام المالي. في ظل إدراج لبنان على اللائحة الرمادية وتخلفه عن سداد ديونه السيادية، أصبح تعزيز القطاع المصرفي مهمة استراتيجية لا غنى عنها لإعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس قوية ومستدامة، ما يسهم في تحقيق استقرار طويل الأمد ويعزز قدرة لبنان على تأمين التمويل اللازم لدعم عملية التعافي والنمو.

مفتاح التعافي المستدام
يُعتبر الرئيس الجديد للجمهورية دعامة أساسية في عملية إعادة بناء لبنان، حيث سيضطلع بدور محوري في توجيه البلاد نحو التعافي الشامل من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة التي مرّت بها خلال السنوات الأخيرة. لا شك في أن الطريق أمامه سيكون محفوفاً بالتحديات والعقبات، ما يستدعي توافر إرادة قوية ورؤية استراتيجية متكاملة تهدف إلى تقديم حلول جذرية ومستدامة لجميع الأزمات المتراكمة. على مر السنوات، شكّلت العلاقة بين السياسة والاقتصاد في لبنان منظومة مترابطة ومعقّدة، بحيث كان للنهج السياسي تأثير مباشر على الوضع الاقتصادي. ومن هنا، يُعد انتخاب رئيس للجمهورية فرصة حاسمة لإعادة إنعاش الاقتصاد، وإرساء بيئة مستقرة قادرة على استعادة الثقة، ما يمهد الطريق لفتح آفاق جديدة أمام تحقيق التعافي الشامل والنمو المستدام.