Beirut weather 15.21 ° C
تاريخ النشر March 2, 2018
A A A
هل هناك أحزاب فعليّة في لبنان؟
الكاتب: د. وفيق إبراهيم - البناء

العلاقة بين معظم الأحزاب والنظام السياسي في لبنان بنيوية الطابع يتبادل كلاهما الدعم والإسناد والحماية بما يؤدّي إلى استلاب الناس كامل إمكانات التطوّر والاندماج. لكن هذا لا ينفي وجود أحزاب قومية ووطنية عابرة خصوصيات الطوائف والمذاهب والمناطق… وحتى الدول… وتعمل بدأب لبناء مجتمعات تؤدّي إلى ولادة فعلية لأوطان فعلية.

أما السائد اليوم فإنّ «الناس» في لبنان هم على الحال التي كانوا عليها قبل قرون. فهم طائفيون ومذهبيون ومناطقيون ويعمل نظامهم السياسي على تكريسها وتجذيرها. وهذه ليست سمات «أبدية» عند هذا اللبناني، بدليل أنها كانت موجودة عند الشعوب كافة في مشرق ومغرب، وتمكنت من تذويبها إلى حدود الإلغاء بواسطة تقنية العدالات الثلاث: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعني المساواة بين الناس في الحقوق السياسية والواجبات والمواقع الإدارية والدستورية والسياسية المفتوحة لكلّ الفئات من دون أيّ اعتبار للفوارق الدينية واللون والانتماءات المناطقية.

بأقلّ من قرن تمكّنت دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وانكلترا وكامل أوروبا واليابان من إنجاز اندماجات اجتماعية شبه كاملة على أساس العدالات الثلاث. فأنشأت أوطاناً لم تكن موجودة، وفيها مواطن يفتخر بوطنه الجديد، لأنّ لديه إحساساً فعلياً بالمساواة مع المواطن الآخر.

أما الدول التي فشلت في هذا الاندماج فهي الدول القديمة التي حافظت أنظمتها الاجتماعية على الانقسامات الدينية والمذهبية والقبلية، لأنّ أنظمتها السياسية كرّستها وثبّتتها.

فالأنظمة الملكية عند العرب تقسّم المجتمع إلى فئات ثلاث: العائلة المالكة، الدائرون في فلكها من قبائل موالية وجيش وأمن وإداريّين وسياسيّين ومتموّلين ومحتسبين. وأخيراً باقي الشعب. أما الأنظمة الجمهورية فتنبثق عادة من انقلابات يتحوَّل فيها القائد ملكاً لا يتقاعد إلا بالموت ولديه التقسيمات نفسها الموجودة في الأنظمة الملكية.. وهنا أيضاً يتحوّل الناس تجمّعات من المصفّقين للزعيم، لكنهم يحتفظون بانقساماتهم القديمة إلى حين الحاجة إليها.

وتأتي المساواة الاقتصادية لتعزز انتماء المواطن إلى «الوطن» الذي يرعاه، لا إلى الطائفة والمذهب كذلك حال المساواة الاجتماعية التي تجعل المواطنين أحراراً في الانتماء الديني غير «المسيّس» لصالح فئة تاريخية، وتلغي الأنظمة الاجتماعية التاريخية المستندة إلى الأنظمة الإقطاعية القديمة.

استناداً إلى هذه المفاهيم، يتبيّن أنّ الأحزاب الدائرة في فلك النظام السياسي اللبناني ليست أحزاباً بقدر ما تجسّد أدوار جمعيات تضمّ إقطاعاً تاريخياً، ترعاه الهيئات الدينية الرسمية والناس.. ميزة هذه الجمعيات أنها تنطلق من منطقة تصبح القلب لمثل هذه التجمّعات. وهي مقفلة على غير المنتمين إليها دينياً ويصادف أحياناً أنها تجذب بعامل المصلحة بعض المنتمين إلى أديان أخرى، فتستعملهم للإيحاء بوطنيتها وانفتاحها وإلى حدود الاستهلاك في وسائل الإعلام والوفود واللقاءات. وقد تمنح البعض منهم أدواراً تصل إلى حدود إيلائهم مناصب «نائب رئيس الحزب». فتعتاد الناس عليه وتظنّ أنه بدّل دينه سراً.

وتتسم هذه الجمعيات بالمذهبية والطبقية والاستسلام للتدخل الخارجي. ما يؤدّي إلى تحوّل النظام السياسي مركزاً لقضاء متطلباتها، والدين وسيلة للتنويم المغناطيسي للناس وإدارات الدولة مراكز للتعيين بهدف كسب الولاءات.

هذه قواعد تنطبق على معظم مَن يحتكر لقب.. فكيف يكون تقدّمياً ولبنانياً ومؤيداً للعدالة الاجتماعية، مَن يترأسه إقطاعي أو «بيك» أو ديكتاتور يكتنز أكثر من أموال قارون، أو مدني يطلق خطباً تؤهّله لكسب مراكز مسؤولة في دور الإفتاء والبطريركيات.

هناك إذاَ أحزاب تختبئ خلف جمعيات شخصية ودينية تقودها عائلات منذ ثلاثة أرباع القرن، تمسك بالناس وتحوّلها قطعاناً بواسطة إمكانات إدارية واقتصادية ودينية تصل حدود مصادرة إمكانات ربّ العالمين والنطق باسمه.

ضمن هذه الصورة الحالكة والشديدة البؤس، تنبثق أحزاب طليعية من خلال هذه العتمة الشديدة لترفض ومنذ ثلاثة أرباع القرن أيضاً، هذه الدكتاتورية المطلقة في جهاد مستمرّ لم ينقطع لحظة واحدة. وهي أحزاب وطنية وقومية وأممية، مُني بعضها بخسائر كبيرة نتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي في 1989. فتراجع الفكر الماركسي كوسيلة للتغيير الوطني والأممي ولم يعد لديه دور في التصدّي لانتشار الفكر الرأسمالي المعولم.

أما الأحزاب الوطنية، فانكفأت تحت ضغط الصعود المذهبي والتقاطعات الحادّة بين القوى الأساسية في النظام السياسي والنفوذ الأميركي ـ السعودي. فتشققت أو تحوّلت جمعيات طائفية أو شخصيات تعمل عند القوى الطائفية. وهناك فئة من الأحزاب القومية، تراجعت إلى حدود الانهيار مع نهاية دكتاتوريات القوميين العرب في العراق ونشوب الأزمة السورية.

لذلك بقي الحزب السوري القومي الاجتماعي رائداً في الاستمرار التاريخي على الرغم من الصعوبات الهائلة، التي تعترضه «مجاهداً» في سبيل التغيير، نحو بناء دولة فعلية.. ولأنه يؤمن بمدى قومي أكبر أظهرت هذه الأحداث الأخيرة مدى ترابطه، فتراه يجاهد على أكثر من جبهة، حاملاً معه رصيداً كبيراً تركه له زعيمه الكبير أنطون سعاده، الذي يحتفل الحزب ومعه كلّ المؤيدين باستشهاده على يد الرجعية العربية المرتبطة بـ»إسرائيل» والنفوذ الأميركي والسعودية.

إنّ استلهام الرحلة البطولية لسعاده لهي من الواجبات الضرورية المفروضة على كلّ لبناني، لأنه ترك حزباً فعلياً لم يتخلّ لحظة عن مشروعه، ولأنه يعرف أنّ الأولوية هي للصراع في وجه العدو الخارجي الذي أطبق على سورية والعراق مهدّداً لبنان ومجتاحاً اليمن، فنراه يتعامل مع الأزمة اللبنانية بعقلية ترابطها مع أزمات الإقليم.

فيتحالف سياسياً مع قوى تجابه مثله العدو الخارجي على أن يعود في مراحل لاحقة لبناء الداخل، باعتبار انّ نتائج المعركة الإقليمية هي التي تحدّد أشكال الأنظمة السياسية في المنطقة ومنها لبنان.

وهذا ما يعيدنا إلى السؤال الأساسي: هل هناك أحزاب فعلية في لبنان؟

الواضح أنّ هناك تنظيمات يقودها سياسيون تحوّلوا زعماء يتوارثون القيادة ويمسكون بالمال العام وتحريك الدين والإمساك بكلّ مفاصل الدولة.

أما الوسائل المفضلة للتحشيد فتبدأ بإثارة الخوف من الآخر بواسطة الوعظ الديني ووسائل الإعلام… المثال على ذلك ما يرد على ألسنة سياسيين لبنانيين من قادة الأحزاب كسمير جعجع والجميّل وريفي والضاهر وفارس سعيد، وحزب المستقبل في خطبهم الموتورة والمتوترة من اتهامات لإيران وحزب الله بتشييع المنطقة. علماً أنّ المذاهب على حالها منذ قرنين من الزمن، وتؤكد معلومات الدول أنّ السوريين الذين تهجّروا من مناطق حرّرها النظام السوري عاد معظمهم إليها في حلب وحماة وحمص والقصيْر وتدمر.. بما يكشف هزالة هذه الاتهامات التي تصبّ في خدمة الإرهاب والأميركيين و»إسرائيل».

لذلك فهذه أدوات تحشيد طائفية تستولي على الدولة ولا تندرج في خانة الأحزاب المعاصرة.

ولا يمكن المراهنة إلا على أحزاب وطنية وقومية غير طائفية أو قبلية.. وحدها قادرة على مجابهة قوى الظلام التي تزعم احتكار الأرض والسماء، لكنها لن تنجح إلا بالهبوط إلى الجحيم وجهنّم وسوء المصير.