Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر February 18, 2019
A A A
هل تتحوّل “السترات الصفر” إلى حركة احتجاجيّة أوروبّيّة؟
الكاتب: النهار

تطرّقت نائبة مدير مكتب “المجلس الأوروبي للسياسة الخارجيّة” في باريس تارا فارما إلى استمرار الاحتجاجات التي تنظّمها “السترات الصفر” في فرنسا على الرغم من مرور ثلاثة أشهر على انطلاقها. في الواقع، هي تشير إلى أنّ هذا الحراك لا يظهر أي مؤشر خمود. مع مشاركة حوالي 80 ألف شخص أسبوعياً في الاحتجاجات، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “النقاش الكبير” على أمل تمكّنه من معالجة مخاوف المحتجين قبل الانتخابات البرلمانيّة الأوروبّيّة في أيار المقبل.
انطلق الحراك في 17 تشرين الثاني الماضي، وهو كان قد بدأ بالتخطيط لتقديم مرشحين إلى تلك الانتخابات. لكن يبدو أنّ هذه الجهود توقّفت الآن لعدد من الأسباب من بينها تنوّع وتعدّد الوجوه السياسيّة التي تقدّم نفسها على أنّها من قادة الحراك. قد تعبر “السترات الصفر” إلى الطيف السياسيّ لكنّها تهدف إلى تخطّي الهياكل السياسيّة القائمة.
التهميش لا يختصر كلّ المشكلة
حين شاركت فارما في حوار رايزينا الذي استضافته نيودلهي الشهر الماضي، سئلت بشكل متكرّر عن طبيعة وأهداف الحراك. كان أحد المواضيع الذي حظي بشعبية كبيرة في المؤتمر جوقة الأصوات المتصاعدة من المجتمعات المهمّشة حول العالم، والتي غالباً ما أغرقت صناعة السياسة التقليديّة. وسئلت عما إذا كانت “السترات الصفر” مصنّفة على أنّها مجتمع من هذا النوع، لكنّها أجابت بالنفي. مع ذلك، هي تضيف أنّ هذا الحراك يناسب فئة اجتماعيّة تقع ضمن هذا التصنيف. فبالرغم من أنّ مطالبهم متنوعة، يشترك هؤلاء المحتجّون في تدهور مكانتهم الاجتماعيّة وفي توقهم إلى تجديد الديموقراطيّة التشاركيّة وفي تركيزهم على العدالة الاجتماعيّة.
بعدٌ أساسيّ
يعبّر الحراك عن الأزمة التي تواجهها الطبقة السياسيّة الفرنسيّة، وكذلك عن أزمة أوسع نطاقاً في أنواع التمثيل السياسيّ. على الرغم من أنّ هذه الظاهرة واضحة في أمكنة أخرى، إلّا أنّها تتمتع بصدى خاص في فرنسا بسبب انهيار ما يسمّيه الفرنسيون الهيئات الوسيطة مثل الأحزاب السياسيّة والجمعيّات السياسيّة والوسائل الإعلاميّة التقليديّة. توسّع هذا الفراغ بشكل ملحوظ لأنّ هذه الهيئات الوسيطة لا تعرف كيف تتعامل مع الحراك كما يبدو.
في الواقع، وحتى فترة قريبة، قادت هذه الهيئات التحرّكات الاجتماعيّة ونظّمتها وفقاً لقواعد محدّدة. وكما يشرح الباحث في “المركز الوطنيّ للبحث العمليّ” الدكتور صمويل هيات، في مظاهرات “السترات الصفر”، “لا يوجد موكب، لا مسؤول قانونياً، لا أسلوب متفاوضاً عليه، لا خدمة (توفير الأمن) والنظام، لا منشورات، لافتات، ملصقات – بل شعارات شخصيّة لا تعدّ ولا تحصى مكتوبة على ظهر سترة صفراء”.
ما الذي تفاقم في عهد ماكرون؟
هنالك أيضاً انقسام جغرافيّ. إنّ التغيّرات الضخمة في الكثافة السكّانيّة بين المناطق هي عامل في شعبيّة الحراك. تأتي غالبيّة “السترات الصفر” من مناطق الريف والضواحي المنفصلة عن مركز باريس المكتظّ بالسكّان. المركزيّة السياسيّة والاقتصاديّة هي عامل آخر في الحراك. ولم تشتدّ هذه المركزيّة إلّا مع مجيء ماكرون إلى الحكم.
شخصنَ ماكرون السياسة أكثر من أسلافه فأملَ في أن يجسّد الرئاسة الفرنسيّة بشكل كامل. أصبحت هذه الاستراتيجيّة سيفاً ذا حدّين – في سياق أزمة الطبقة السياسيّة، وانحسار النقابات بوتيرة كبيرة، والانقسام الجغرافي المذكور – تنحصر طريقة المعارضة الوحيدة في فرض تحدّ مباشر على الرئيس. إنّ العنف الذي حصل منذ سبتين زاد من قدرة الحراك على جذب الأضواء وكذلك دور ماكرون البارز على المسرح الدولي.
سيف آخر ذو حدّين
نتيجة لما حدث، كانت استجابة الرئيس الفرنسي للحراك شخصيّة أيضاً. كجزء من النقاش الكبير، يجول ماكرون في مختلف أنحاء البلاد للقاء العمدات ومسؤولين محلّيّين منتخبين من أجل إجراء محادثات مباشرة. من المتوقع أن يجيب على صلب الأسئلة التي تشغل بالهم. ومع ذلك، يشكّل هذا الأمر سيفاً آخر ذا حدّين. من خلال تحرّكه، قد يعزّز ماكرون الانطباع بأنّه يشخصن كلّ شيء تقف “السترات الصفر” ضدّه – مع تداعيات سياسيّة خطيرة على الانتخابات البرلمانيّة الأوروبيّة. لكن يمكنه أن يخرج أقوى من هذه التجربة إذا تبدّدت هذه الاحتجاجات بطريقة بطيئة، تاركة الانطباع بأنّه يقوم بالخطوة الصحيحة عبر أخذ وقته في الاستماع إلى الناخبين.
كيف أثّرت على السياسات الأوروبّيّة؟
خلال الأسابيع القليلة الماضية – على الأرجح بسبب موقع ماكرون الدولي – كان هنالك عدد متزايد من التلميحات بأنّ “السترات الصفر” قد تحوّل احتجاجاتها إلى حراك أوروبّيّ، على مستويي الأهداف السياسيّة من جهة وجغرافيا الانتشار من جهة أخرى. بالرغم من أنّها لم تحوّل مطالبها إلى مطالب إقليميّة، كان لها تأثير هائل على السياسات الأوروبّيّة.
في السابع من شباط، وفي أسوأ خلاف ديبلوماسيّ فرنسيّ-إيطاليّ منذ الحرب العالميّة الثانيّة، استدعت باريس سفيرها في إيطاليا بعدما التقى نائب رئيس الوزراء الإيطاليّ لويجي دي مايو بممثّلين عن الحراك. أدّى هذا الانعطاف الدراميّ في الأحداث إلى دعوة وزير الداخليّة الإيطاليّ ماتيو سالفيني نظيره الفرنسيّ كريستوفر كاستانر للقائه الأسبوع المقبل.
وقّع دي مايو رسالة في صحيفة “لوموند” شرح فيها أنّ الحكومة الإيطاليّة تنظر إلى فرنسا كمساهم مهمّ في الكفاح لأجل الحقوق المدنيّة والسياسيّة، مشدّداً في الوقت عينه على أنّ مستقبل السياسات الأوروبّيّة لم يعد يكمن بين أيدي اليمين أو اليسار. وأشار إلى أنّه لهذا السبب اجتمع بممثّلين من “السترات الصفر”.
انطلاقاً من هنا، تختم فارما مقالها بلفت النظر إلى أنّ هذا الحراك لم يتحوّل بالكامل إلى حراك أوروبّيّ، لكن مع ذلك، يمكنه أن يتمتّع بتأثير أكبر من المتوقّع على النقاشات التي تسبق الانتخابات الأوروبية المقبلة.