Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر November 17, 2017
A A A
هكذا نهضت هيروشيما من تحت أنقاض القنبلة الذرية
الكاتب: ستيف جون باول - بي بي سي

بعد إلقاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما، وقعت سلسلة من الأحداث البارزة التي خلدت اسم المدينة اليابانية في صفحات التاريخ لأسباب عديدة، قد تكون أبلغ أثرا من قصة تدميرها بتلك القنبلة.

في نهار أحد أيام آب القائظة، كانت أزهار اللوتس تتفتح في البحيرة المحيطة بجرس السلام، بمتنزه السلام التذكاري. واصطف مجموعة من تلاميذ إحدى المدارس الابتدائية بقبعاتهم الصفراء الزاهية لقرع الجرس، ودُعي جميع الزوار للمشاركة في ذلك التقليد، وتردد صدى الجرس في جميع أنحاء المتنزه. وحين كان الأطفال ينتظرون دورهم لقرع الجرس، أشاروا بلهفة إلى اليعاسيب الزرقاء التي كانت تتنقل بين الأزهار المتفتحة.
هذه الأزهار لها أهمية رمزية كبيرة في اليابان. ففي المعابد المنتشرة في أنحاء اليابان، تجلس تماثيل بوذا على قواعد نُحتت على هيئة زهرة اللوتس. ويرمز خروج هذه الزهرة البديعة من الطين أسفل البركة إلى سمو بوذا فوق معاناته، ووصوله إلى الاستنارة، وهي أعلى المراحل الروحانية.

معلومات أساسية عن اليابان
لكن أزهار اللوتس في متنزة السلام التذكاري بهيروشيما لها أهمية أخرى، فهي تعكس انبعاث المدينة من تحت الرماد لترسم بنفسها ملامح مرحلة النهضة في أعقاب تلك الكارثة.
في آب عام 1945، قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، أسقطت القوات الأمريكية قنبلة ذرية على المدينة، وحصدت أرواح عشرات الآلاف، وتحولت هيروشيما إلى أرض مقفرة ومحروقة، واعتقد كثيرون، وفق ما جاء على لسان هارولد جاكوبسن، وهو أحد العلماء المشاركين في “مشروع منهاتن”، أنها لن تصلح للعيش أو الزراعة لمدة 70 عاما.

جميع زوار حديقة السلام التذكارية بإمكانهم قرع جرس السلام

إلا أن سلسلة من الأحداث البارزة كان لها الفضل في تخليد اسم هيروشيما في صفحات التاريخ، لأسباب أكثر إلهاما وأقوى تأثيرا من الدمار الذي حل بها.
ففي خريف 1945، خرجت من الأرض الميتة أعشاب برية، على عكس توقعات جاكوبسن، ثم أزهرت أشجار الدفلى في الصيف اللاحق، وأنبتت أشجار الكافور، التي يصل عمر بعضها إلى مئات السنوات، فروعا جديدة. وقد حرك ظهور هذه الأزهار والنباتات مشاعر اليابانيين، وتحولت زهرة الدفلى، وشجرة الكافور فيما بعد إلى الرمزين الرسميين لصمود المدينة، وحظيا بمكانة كبيرة في قلوب سكانها.

وفي الوقت نفسه، طفق اليابانيون من كل حدب وصوب يغدقون المساعدات على هيروشيما، بداية من السيارات لإعادة مظاهر الحياة إلى المدينة، وحتى الأشجار لزراعتها في الأراضي التي خلت منها النباتات. كما تبرّع أحد المعابد في محافظة واكاياما بمعبد برجي “باغودا”، الذي يعود إلى القرن السادس عشر، تعبيرا عن تضامنه مع المدينة. ويمكنك أن ترى الآن هذا المعبد البرجي البرتقالي يعلو شامخا بجانب أشجار القيقب في معبد ميتاكي، الذي يمثل إحدى البقاع الأكثر سكونا وسلاما في هيروشيما.

اليابان ترفع شعار “لا للعمل حتى الموت”
إلا أن الحدث الذي لعب دورا محوريا في عملية إعادة البناء وقع في السادس من آب عام 1949، وتمثل في إصدار قانون إنشاء مدينة هيروشيما كرمز دائم للسلام. وكان هذا القانون ثمرة الجهود الحثيثة التي بذلها سكانها، ولا سيما عمدتها شينزو هاماي.
وفي أول احتفال للسلام بهيروشيما في عام 1947، قدم هاماي نموذجا ملهما لجميع عُمد هيروشيما من بعده، حين قال: “لنتكاتف معا من أجل القضاء على أهوال الحروب، وبناء سلام حقيقي”. ولهذا، لم يكن الهدف من قانون إنشاء مدينة هيروشيما لعام 1949 إعادة بناء المدينة فحسب، إنما أريد به بناء مدينة جديدة تماما كرمز للسلام “لتجسد السعي الدؤوب من أجل إحلال سلام دائم وحقيقي”.

يضم متنزه السلام التذكاري ما يزيد على 60 نصبا تذكاريا ومبنى من أجل إحلال السلام

ولأول مرة في التاريخ تبذل جهود من أجل تكريس مدينة بأكملها لإحلال السلام. ولا يدخر سكان هيروشيما جهدا حتى الآن من أجل نشر السلام.
وتجسيدا لهذه الغاية، أقيم متنزه السلام التذكاري في قلب هيروشيما على ضفاف نهر موتوياسو، على أنقاض المركز التجاري والسكني السابق بالمدينة، ويمتد هذا المتنزه على مساحة تزيد على 120 ألف متر مربع، ويضم ما يربو على 60 نصبا تذكاريا وبناية، كلها لها علاقة بالسلام، أبرزها متحف السلام التذكاري.

وعلى الضفة المقابلة، حُفظ هيكل معرض التطوير الصناعي، ليظل رمزا للأمل في القضاء على الأسلحة النووية. واليوم، أصبحت أطلال المبنى، التي ظلت صامدة منذ وقوع الانفجار، هي المركز الروحاني للمدينة. ويعرف هذا المبنى رسميا باسم النصب التذكاري للسلام بهيروشيما، أو قبة القنبلة الذرية، ولكن معظم السكان يطلقون عليه قبة “غينباكو”.

خمسة بلدان يعيش الناس فيها أطول الأعمار
تقول أياكا أوغامي، طالبة يابانية: “يرمز هذا المبنى لأهمية السلام الدائم. ولا يوجد له مثيل في العالم”. وأدرج هذا الموقع ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، ويتوافد عليه ما يربو على المليون سائح سنويا.
ولا يخلو مكان في هيروشيما من كلمة “السلام”، فهناك طريق السلام، وهو شارع عريض اصطفت على جانبيه الأشجار والمصابيح الحجرية. وأمام المتنزه التذكاري للسلام، في نفس الشارع، توجد بوابات السلام، وهي مجموعة من الأقواس الزجاجية يبلغ طول الواحد منها تسعة أمتار، ونقشت عليها كلمة “سلام” ب49 لغة.
ويطلق على الدراجات المزودة بمحركات، والتي تستأجرها لتطوف أنحاء المدينة “بيسيكل”، وقد حور المقطع الأول من كلمة “بايسكل” بالانجليزية، والتي تعني دراجة، ليصبح “بيس” التي تعني السلام بالانجليزية.

بوابات السلام عبارة عن أقواس نقشت عليها كلمة “سلام” ب49 لغة

وسيلفت انتباهك حتما لمعان معبد السلام البرجي على قمة تل فاتوبا، وهو ضريح فضي يحوي رفات بوذا، تبرع به البوذيون المنغوليون، ويمكنك أن تراه من أماكن عديدة من المدينة.
يقول مايكو أوان، الموظف بمكتب الترويج للسياحة التابع لمحافظة هيروشيما: “علينا أن نحافظ على جمال هذه المدينة وعلى سهولة العيش ويسره فيها، تقديرا لجهود كل من ساهم في إعادة تعميرها”.
ولهذا ستلاحظ أن هيروشيما لا تضاهيها أي مدينة أخرى في العالم من حيث المساحات الخضراء، إذ تكثر فيها المتنزهات والحدائق الغنّاء، والطرق الخضراء على جانبي الأنهار.
ولم تقتصر جهود مدينة هيروشيما على إشاعة جو من السلام على أراضيها فحسب، إنما تشارك أيضا في مبادرات لا حصر لها لإحلال السلام في العالم، بداية من إقامة معارض متنقلة للتعريف بتاريخ المدينة، إلى تنظيم معسكرات سلام للأطفال، لتوعية طلاب المدارس الابتدائية والثانوية بأهمية السلام.

لماذا لم يتمكن أحد من العثور على قبر جنكيز خان؟
كما يمنح متحف هيروشيما للفن المعاصر جائزة سنوية للأعمال الفنية التي تساعد في نشر التآلف والوئام بين الناس. ونظمت محافظة هيروشيما، بالتعاون مع غيرها من السلطات المحلية، مشروع “هيروشيما جسر للسلام”، الذي يتضمن حفلات موسيقية تحت عنوان “رسالة السلام” في المدينة لدعم التواصل بين الناس في العالم.
يقول هيدهيكو يوزاكي، محافظ هيروشيما ورئيس مشروع جسر السلام: “نحن نبذل كل ما في وسعنا لإيصال رسالة السلام من هيروشيما إلى العالم، وإقامة نظام يدعم أنشطة نشر السلام باستمرار”.
ومن أبرز المشروعات في هذا الصدد، مشروع “عُمد من أجل السلام”. ودُشن هذا المشروع في ثمانينيات القرن الماضي، بناء على اقتراح عمدة هيروشيما آنذاك تاكيشي أراكي، الذي كان يحلم بأن تتعاون المدن مع بعضها، وتتجاوز الحدود السياسية، من أجل إحلال السلام وإقامة عالم خال من الأسلحة النووية.
ويعنى المشروع بتناول قضايا الفقر والجوع وغير ذلك من المشكلات العالمية. وانضمنت إلى المشروع حتى الآن 7.469 مدينة في 162 دولة ومنطقة، بالإضافة إلى 16 مدينة أخرى انضمت مؤخرا في تشرين الأول 2017.

يقول زوار مدينة هيروشيما إن قلوبهم تفيض بالأسى والشفقة فيما يعرف بـ “تأثير هيروشيما”

وتزرع هيروشيما حب السلام في نفوس أبنائها منذ الصغر، إذ يقام أسبوع سنوي للتعريف بالسلام في المدارس الابتدائية، يتعرف فيه الطلاب على ماضي هيروشيما وأهمية السلام. وفي الإجازة الصيفية، يتطوع الكثير من الطلاب لاصطحاب السياح في جولة حول متنزه السلام التذكاري.

تقول ساكي ناكاياما، طالبة في المرحلة الثانوية: “أود لو أتمكن من نشر قصة هيروشيما بين أكبر عدد ممكن من الناس في العالم”.

وتقول موي كانازاوا، حاصلة على شهادة “السلام والتعايش المشترك” من جامعة هيروشيما: “أرى أنه يتحتم على كل من يعيش على أراضي هيروشيما أن يساهم في تخليد ذكرى أحداث هذا اليوم المشئوم، حتى لا تمحى من الذاكرة، ولا تتكرر مرة أخرى”.

وكثيرا ما يسألني أصدقائي عن طبيعة الحياة في هيروشيما، التي قضيت فيها نحو 20 عاما، وهل تبعث حقا على الكآبة والحزن؟ لكنني أجيبهم دوما بالنفي، فهذه المدينة لا تبعث على الكآبة على الإطلاق، فكما قال لي معلم اليوغا إيزومي ساتو: “إن صورة إعادة بناء هيروشيما طغت على صورة هدمها”.

واليوم أصبحت هيروشيما مكانا مبهجا، يطيب فيه العيش، وتنفرد بموقعها الساحر المطل على سواحل بحر سيتو الداخلي، وجزرها العديدة والعجيبة. وتنتشر الجبال في أجزائها الثلاثة الأخرى، وتمرّ خلالها ستة أنهار، ولهذا أطلق على هيروشيما اسم “مدينة الماء”.

ولا يغادر الزوار مدينة هيروشيما إلا وقد غمرتهم مشاعر الإعجاب والتقدير لسكانها العظماء الذين أزمعوا على نفض الغبار والنهوض والبدء من الصفر، واتخذوا من مأساتهم مصدرا لنشر الخير في العالم.

يقول الكثير من الزوار إن قلوبهم تفيض بالأسى والشفقة وحب الخير للأخرين، وقد تسمي هذه المشاعر “تأثير هيروشيما”. وكما قالت أوان: “أتمنى أن يزور الكثير من الناس مدينة هيروشيما حتى يدركوا أهمية السلام”.